تعقيبا على شتيوي الغيثي في صحيفة الوطن
تعقيبا على شتيوي الغيثي
مزيد من الاهتمام بالدور الديني والبيئة التعليمية بإنسانها ومناهجها يدعم الأمن الفكري
قرأت في \"الوطن\" ما كتبه الأستاذ شتيوي الغيثي تحت عنوان: \"الأمن الفكري: المفهوم واستراتيجية التطبيق\": \"والأمن الفكري: مساءلة الأصول الثقافية\" في العددين (3045) و(3052) فوجدت نفسي مشدودا إلى ما طرحه في هذين المقالين، ومن ثم رغبت في أن أدلي بدلوي مؤملا أن تصب هذه المداخلة في تنمية ثقافة الأمن الفكري.
إن مصطلح \"الأمن الفكري\" سبق أن تناولته دراسات ورسائل جامعية، ويدرس تحت عناوين مختلفة، تصب مخرجاتها في تعزيز الأمن الفكري لدى المتلقين، فمنها ما يدرس في مراحل التعليم العام، وتتدرج صعودا وبسطا ـ بحسب التخصص ـ في أقسام وكليات ومراحل التعليم العالي التي تعنى بمصادر الإسلام وعلومه ودراسة المذاهب المعاصرة وأصول تلقي العلم الشرعي وضوابط الفتوى وأقسام الآراء وأحكام الجهاد وقضايا الثقافة الإسلامية والانحراف الفكري والغزو الفكري والتغريب والاستشراف والعلاقات الدولية في الإسلام، بل إنه يدرس كمقرر مستقل تحت اسم \"الأمن الفكري\" في بعض الكليات الأمنية منذ عشرات السنين، وأنا أؤيد إدراجه كمقرر دراسي.
إن المستعرض لتاريخ الأمن الفكري اسما ومصطلحا يستشف تتابع الاهتمام منذ أكثر من ثلاثين عاما رغم محدودية الجهود، ففي عمل علمي قلت موضحا أهمية الأمن الفكري:
\"إن بعض الباحثين عالج مفهوم الأمن باعتباره ردة فعل للاجتماع البشري وتعقد الحياة بين الأفراد وظهور الصور العدوانية المختلفة وأغفل أهمية الأمن الفكري الذي ينعكس على الأمن المادي\". إلى أن قلت \"وعلى هذا فإن استقرار الأمن الفكري المستمد من المبادئ والقيم الإسلامية هو ألصق بالأمن المادي ـ الحسي ـ ومؤثر فيه ومن شأنه أن يشمل كل المساحة التي يتعامل فيها الإنسان وعلى العكس إذا ما اضطرب الأمن الفكري، فهو يعني نذيرا بالتوتر والانفعال الذي يتطور إلى استخدام مظاهر العنف والخروج عن الجادة\" (الجحني، 1400 هـ،ص186).
والجرائم كبرت أو صغرت وراءها فكر مسموم ولها علاقة بالفكر نقطة الارتكاز في حياة الإنسان.
وهنا نذكر مؤلفين: الأمن في ضوء الإسلام وأضواء على الحرب النفسية اللذين صدرا في مستهل عام 1400 وقد اجتهد فيهما بتشخيص أسباب الداء ووصف الدواء، وكل محب للوطن ينظر إلى معكراته من زاويته.
وفي المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب المحكمة نشر بحث في العدد 27، المجلد 14 عرفت فيه الأمن الفكري بأنه: \"التزام واعتدال ووسطية وشعور بالانتماء إلى ثقافة الأمة وقيمها، فضلا عن أنه يعني فيما يعني حماية عقل الإنسان وفكره ورأيه في إطار الثوابت الأساسية والمقاصد المعتبرة والحقوق المشروعة المنبثقة من الإسلام عقيدة وشريعة حياة\". وهذا التعريف الذي يرجع إلى الكثير من الباحثين إلى جانب تعاريف باحثين آخرين، كان قد نشر قبل ذلك التاريخ بوقت طويل. واستمر الاهتمام بالأمن الفكري مفهوما ووظائف وتأصيلا في الجامعة التي أعمل فيها، فأشرفت وناقشت عددا من رسائل الماجستير والدكتوراه، فضلا عن التدريس والمشاركات العلمية ذات الصلة بالدراسات الأمنية التي يتربع سيدها الأمن الفكري على قمتها الذي هو بمنزلة القلب من الجسد، إذا صلح انعكس على كل أعضاء الجسم، وإذا فسد بالشبهات والشهوات والهوى فسد سلوك صاحبه. وأجدني أكرر في مسائل الأمن الفكري ما أوردته في مؤلف بعنوان: \"الإرهاب: الفهم المفروض للإهارب المرفوض، ط1421هـ) ففي ص200 من هذا الكتاب تحت موضوع: \"الأمن الفكري\" جاء \"والإسلام وهو يعالج موضوع الأمن الفكري أعطاه ما يستحق من رعاية فاقت اهتمام القوانين الوضعية قديمها وحديثها، فإذا كانت القوانين الوضعية قد اهتمت بالتجريم والعقوبة، فإن الشريعة الإسلامية قد اهتمت بالتربية والإصلاح ومن ثم بينت الأفعال المحرمة، وبينت العقوبات المترتبة عليها\" وفي كتاب بعنوان \"الإعلام الأمني والوقاية من الجريمة\" وهو من إصدارات الجامعة: جاء في صفحة 81 في السياق نفسه:
عوامل بناء الأمن الفكري على مستوى الأفراد هي بالاهتمام بالتربية والقدوة الصالحة والتوجيه بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار الهادف البناء واستغلال أوقات فراغ الشباب بما يعود عليهم بالنفع، إلى غير ذلك من الأساليب النافعة، ولأن الأمن الفكري ومهدداته متعددة ومن ضمنها ما جاء، في العنوان: (الماسونية.. غزو ومخاطر ط1403هـ) قلت ما أنقله بنصه:
وحبذا لو ضاعف العلماء وحملة الأقلام من جهودهم في الكشف عن المخططات الفكرية الهدامة وإماطة اللثام عن حقيقتها، والإبانة عن مكنونها ومواطنها حتى تعرف الأجيال تمام المعرفة الأخطار المحدقة بها، وسبل الوقاية منها ووسائل مجابهتها وردها. وكان الكتاب قد تناولته بالدراسة صحيفة عكاظ في 12/6/1403 في ملحق الفكر الإسلامي بها، تحت عنوان \"كتاب للقراءة\".
وفي عمل علمي آخر تحت عنوان \"الشيوعية ودعايتها الزائفة، ط1403هـ\" أشرت في صفحة 131 إلى وسائل مقاومة الأخطار الفكرية على الإجمال، واقترحت وسائل وقائية عملية ضد التيارات والأفكار المنحرفة وكل ما يهدد أمننا الفكري على الإجمال. وتوالت البحوث المرتكزة على حماية الضرورات الخمس والثوابت وقوام الفكر، وسماحة الإسلام والوسطية ومعرفة الواقع والمآلات وما يصدر عن هيئة كبار العلماء في بلادنا ـ حرسها الله ـ في النوازل.. وكان آخره بحثين \"محكمين\" نشرا خلال عام 1429 في مجلة كلية المعلمين ومجلة وزارة العدل.
وفي ملتقى جمعيات تحفيظ القرآن الكريم الرابع الذي عقد في آخر شهر صفر من هذا العام طرحت ورقة للتدارس بعنوان: \"دور حلقات تحفيظ القرآن الكريم في تعزيز الأمن الفكري: رؤية مستقبلية\".
وأنا أوافق ما ذهب إليه الأستاذ الغيثي قوله: \"إن الإيمان الرسمي بفكرة الأمن الفكري هو وعي بمعضلة التطرف\" والمسوغ في رأيي المتواضع، الدراية ونفاذ البصيرة بأهمية الأمن الفكري في الحياة السعودية، وهناك من الشواهد والمواقف والأقوال، ما يثبت ذلك، ولأن الأمن الفكري واضح فكرا وممارسة، بسبب الالتزام بالشريعة الإسلامية، فإن سلامة الفرع من سلامة الأصل، إيمانا بمنهج الإسلام عقيدة وشريعة حياة. ولذلك لم يُلجأ في أي وقت من الأوقات الحرجة إلى ما قامت به بعض دول العالم عندما كانت دباباتها تقتحم الجامعات، فضلا عن الاعتقالات العشوائية حتى أصبحت السجون في تلك الدول مكتظة بعشرات الآلاف وفرض حظر التجوال وإعلان الطوارئ والأحكام العرفية والإقامة الجبرية وأخذ الأقارب بجريرة أبنائهم وفوق هذا إساءة الظن في مواطنيهم.
وأمام تحدي المعضلة التي أشار إليها الكاتب بـ \"أحادية الطابع\" فالحل الجذري يتجسد في مزيد الاهتمام بالدور الديني والبيئة التعليمية بإنسانها ومناهجها، وكل مؤسسات المجتمع العام والخاص مع مساءلة الضمير المتردد الساكت عن الحق.. وإلى متى؟
إن الفعل الجاد قولا وممارسة يتبلور في التحصين بترسيخ مفاهيم المواطنة والمسؤولية الاجتماعية والشخصية وحفظ نعمة الأمن والاستقرار والمحافظة على المكونات الثقافية الأصيلة والعمل صفا في مواجهة التيارات والاتجاهات الباغية والخارجة عن الدين الحق التي تسعى إلى هدم الدين أو تشويه مكانته أو هدم الأخلاق والتلاحم الاجتماعي أو زعزعة أمن الدولة أو عرقلة عجلة التنمية. وإني أحيل المهتم بالأمن الفكري ومسائله إلى مكتبة جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، فالصيد كل الصيد في جوف الفراء، كما أشير إلى مجهود ضخم أنجزته في الأسبوع المنصرم الإدارة العامة للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ممثلة في جمعية تحفيظ القرآن بالمنطقة الشرقية، حيث عقد الملتقى الرابع للجمعيات حول تعزيز الأمن الفكري، وصدر عن الملتقى 29 بحثا. وكانت التوصيات الصادرة عن الملتقى في غاية الجودة والإتقان وكلها تعزز الأمن الفكري والاجتماعي، وتسمى الأشياء بمسمياتها بوضوح، فتحية للقائمين على الملتقى.
بقي أن نشير إلى أنه إذا كان في بعض الدول من ينظر إلى هذا المصطلح على غير المراد منه، فذاك شأنهم، وما تحتفظ به ذاكرتهم وتداعيات إصرارهم على \"الأممية\"، أما في بلادنا فالأسس التي أقام عليها الملك عبدالعزيز رحمه الله هذا الكيان دينا ودولة واضحة، ويمكن للباحث عن الحق منهم النظر إلى مواد نظامنا الأساسي للحكم: (1، 3، 7، 11، 23، 24، 25، 33، 34، 36، 37، 39...)
وبعد هذه المداخلة التي لا مراء فيها ولا تزود، فإني أتحسر عندما نمر مسرعين على إنجازاتنا كسعوديين في التأصيل والريادة دون إنصاف وبيان، إذ لم نكن لنصل إلى هذا المستوى بضربة حظ، كما قد يتوهم بعض إخواننا في العالم العربي والإسلامي، وإنما هو بتوفيق من الله أولا، ثم بالجد والاجتهاد.
وختاما: فإن المنشغلين بقضايا الأمن الفكري السلمي يدركون أنها ستطفو من حين لآخر أمراض فكرية بتحول بعضها إلى سلوكيات عدوانية باغية مثلها مثل بعض الأمراض التي تهدد الأمن الصحي للإنسان، لكن إذا ظهر الداء استدعي الدواء وبمشاركة الجهود الفردية والشعبية وجهود القطاع العام والقطاع الخاص، فالكل في سفينة واحدة.
وأستغفر الله أولا وأخيرا من زلة اللسان، أو ما ند به القلم مع شكري لـ \"الوطن\" وللأستاذ الغيثي الذي أفاض وأفاد، وأهاب بالمتخصصين لضبط هذه المصطلح (الأمن الفكري) ضبطا منهجيا. وما خواطري هذه رغم تواضعها إلا صدى لتلك الدعوة الكريمة.
الدكتور علي فايز الجحني