علو الهمة
علو الهمة
الجمعة 15/ 10/1431هـ
الجمعة 15/ 10/1431هـ
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى , والشكر له على ما أولى من نعم سابغة واسدى , أحمده سبحانه وهو الولي الحميد , وأتوب إليه جل شأنه , وهو التواب الرشيد .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستجلب بها نعمه , ونستدفع بها نقمه , وندخرها عدة لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , وصفيه من خلقه وخليله , صلى الله عليه وعلى آله نجوم المهتدين ورجوم المعتدين , ورضي الله عن صحابته الابرار الذين قاموا بحق صحبته , وحفظ شريعته , وتبليغ دينيه إلى سائر امته , فكانوا خير امة اخرجت للناس .
أما بعد
فأوصيكم أيها الناسُ و نفسي بتقوى اللهِ تعالى , فاتقوهُ حقَ التقوى واستمسكوا بالعروةِ الوثقى .
أيها المؤمنون
في قرن وبعض قرن وثب المسلمون وثبة ملأوا بها الأرض قوة ً وبأسا , وحكمة وعلما , ونورا وهداية , فراضوا الأمم , وهاضوا الممالك , وركزوا أوليتهم في قلب آسيا , وهامات أفريقية , وأطراف أوربة .
لقد قطع المسلمون تلك المرحلة وهم يعرفون معالم طريق المجد , ونهج السعادة في الدارين , وأمعنوا بكل ثقة في هذا السبيل , بطاقة خارقة وقوة دافعة , كانوا يدركون أنهم لن يصلوا إلى مطلبهم بغير العلم والإرادة .
أما العلم فحسبنا أنه الحاكم على الممالك , والسياسات , والأموال والأقلام , فملك لا يتأيد بعلم لا يقوم , وسيف بلا علم مِخراق لاعب , وقلم بلا علم حركةُ عابث .
والعلم شرفه عظيم , وفضله كبير , ولن يناله إلا صاحب همة , فالهمة بها قوام الأمة , لا تصل إلى مطلوب بغير همة , والناس يتفاوتون في هممهم , فهمم عالية , وهمم سافلة , همم جاوزت الجوزاء وناطحت كبد السماء , وهمم تدور في أطباق الثراء , بين التراب والماء , فهي في وحل دائم .
قال ابن الجوزي رحمه الله : وما تقف همة إلا لخساستها , وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون , وقد عرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي , وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات , فإذا حثت سارت , ومتى رأيت في نفسك عجزا فسل المنعم , أو كسلا فسل الموفق , فلن تنال خيرا إلا بطاعته , فمن الذي اقبل عليه ولم ير كل مراد ؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة ؟ أو حضي بغرض من أغراضه ؟
عن عبد الله بن قيس , أبي أمية الغفاري قال : كنا في غزاة لنا , فحضر عدوهم , فصيح في الناس , فهم يثوبون إلى مصافهم , إذا رجل أمامي , رأس فرسي عند عَجُزي فرسه , وهو يخاطب نفسه ويقول : أي نفس ألم اشهد مشهد كذا وكذا ؟ فقلت : أهلُكَ وعيالك , فأطعتك ورجعت ؟ ألم اشهد مشهد كذا وكذا ؟ فقلت : أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت ؟ والله لأعرضنك اليوم على الله , أخذك , أو تركك .
فقلت : لأرمقنه اليوم , فرمقته فحمل الناس على عدوهم , فكان في أوائلهم , ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا و فكان في حماتهم , ثم إن الناس حملوا , فكان في أوائلهم , ثم حمل العدو , وانكشف الناس , فكان في حماتهم , قال : فو الله مازال ذلك دأبه حتى رايته صريعا , فعددت وبه وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة .
قال ابن القيم رحمه الله : علو الهمة أن لا تقف دون الله , ولا تتعوض عنه بشيء سواه لا ترضى بغيره بدلا منه .
وقال : الهمة العالية كالطائر العالي على الطيور , لا يرضى بمساقطهم , ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم .
عباد الله
كم نمني أنفسنا باشياء عديدة , لماذا لا نصل إليها , الطالب يمني نفسه بدرجات عاليه , والمعلم يمني نفسه بأداء متميز , وفلان يمني بتوبة نصوح , وآخر بطلب جاد للعلم , فمالذي يحول بينهم وبين مطالبهم .
إن الهمة هي الحكم الفصل في ذلك , فيامن يروم نيل مطالبه , وبلوغ غاياته , سل الله الهمة العالية , فما تقدمت شعوب على أخرى , ولا سبق شخص أقرانه , ولا تميز متميز عن غيره بغير الهمة العالية .
نقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة : ذو الهمة إن حطَّ , فنفسه تأبى إلا علوا , كالشعلة من النار يصَوِّبُها صاحبها , وتأبى إلا ارتفاعا .
قال عليه الصلاة و السلام : من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة . البخاري
فالهمة عمل قلبي , والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه , وكما أن الطائر يطير بجناحيه , كذلك يطير المرء بهمته , فتحلق به إلى أعلى الآفاق , طليقة من القيود التي تكبل الأجساد .
وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام : من سال الله الشهادة بصدق , بلغه الله منازل الشهداء , وإن مات على فراشه .
وقال بأبي هو وأمي : ما من امرىءٍ تكون له صلاة بليل , فغلبه عليها النوم , إلا كتب له أجر صلاته , وكان نومه صدقةً عليه . النسائي وابو داود
فليس الشأن فيمن يقوم الليل , إنما الشأن فيمن ينام على فراشه , ثم يصبح وقد سبق الركب بعلو همته , وطهارة قلبه , وقوة يقينه .
وما أحسن قول الشاعر مخاطبا الحجيج وقد انطلقوا إلى الحج :
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قَدَرٍ ومن أقام على عذرٍ فقد راحا
وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية كما بين ذلك الصادق المصدوق في قوله : سبق درهم مئة ألف , قالوا : يا رسول الله ! كيف يسبق درهم مئة ألف ؟ قال : رجل كان له درهمان , فأخذ أحدهما , فتصدق به , وآخر له مال كثير , فأخذ من عَرْضها مائة ألف .
عباد الله
الهمم تتفاوت حتى عند الحيوانات
فالعنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتا .
والحية تطلب ما حفر غيرها , إذ طبعها الظلم .
والغراب يتبع الجيف , والصقر لا يقع إلا على الحي , والأسد لا يأكل البايت .
إن الهوان حمارُ البيت يألفه والحر ينكره والفيل والأسد
ولا يقيم بدرا الذل يالفها إلا الذليلان عير الحي والوتدُ
اجتمع عبد الله بن عمر , وعروة بن الزبير , ومصعب بن الزبير , وعبد الملك بن مروان , فقال لهم مصعب : تنموا , فقالوا : ابدأ أنت .
فقال : ولاية العراق , وتزوُّج سُكَينة ابنة الحسين , وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله , فنال ذلك .
وتنمى عروة بن الزبير الفقه , وأن يحمل عنه الحديث , فنال ذلك .
وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها .
وتمنى عبد الله بن عمر الجنة .ونسأل الله أن ينيلنا وإياه إياها .
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا
إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته , وتحقيق بغيته , لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره .
لما ولي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخلافة خير امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها , وبين أن تلحق بأهلها , فبكت وبكى جواريها لبكائها , فسمعت ضجة في دارها , ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله .
وقال له رجل : تفرغ لنا يا أمير المؤمنين , فأنشأ يقول :
قد جاء شغل شاغل وعدلت عن طرق السلامة
ذهب الفراغ فلا فرا غ لنا إلى يوم القيامة
وقالت زوجه فاطمة : ما أعلم أنه اغتسل من جنابة ولا احتلام منذ استخلف .
قيل للإمام أحمد : متى يجد العبد طعم الراحة ؟ قال : عند أول قدم في الجنة
وقال الأمير شمس المعالي قابوس : ابتناء المناقب باحتمال المتاعب , وإحراز الذكر الجميل بالسعي في الخطب الجليل .
ونحن أناس لاتوسط عندنا لنا الصدرو دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن خطب الحسنا لم يُغْله المهر
وقال أحدهم لما عوتب لشدة اجتهاده قال: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها , وستكون ولا أكون فيها , ولا أحب أن أغبن أيامي
انفضوا النوم وهبوا للعلا فالعلا وقف على من لم ينم
فالصلاة خير من النوم , والتجلد خير من التبلد , والمنية خير من الدنية
فعالي الهمة ينطلق بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم , فيقتحم الأهوال , ويستهين بالصعاب .
قال معاوية : من طلب عظيما , خاطر بنفسه .
ذريني أنل مالا ينال من العلا فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدارك المعالي رخصيةً ولا بد دون الشهد من ابر النحل
عباد الله
إن كبير الهمة كائن متميز في كل خصائصه , حتى في ندمه , فبينما يندم خسيس الهمة لفوات لذاته ومعاصي ربه, أو يتحسر لفراق شهواته , فإن لكبير الهمة شأنا آخر حتى وهو يندم .
قال عليه الصلاة و السلام : ليس يتحسر أهل الجنة على شيء , إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها .
وعن قتادة أن عامر بن قيس لما حُضر جعل يبكي , فقيل له : ما يبكيك ؟
قال : ما أبكي جزعا من الموت , ولا حرصا على الدنيا , ولكن أبكي على ظمأ الهواجر , وعلى قيام ليالي الشتاء .
وذكروا لشعبة حديثا لم يسمعه فجعل يقول : واحزناه !
وكان يقول : إني لأذكر الحديث , فيفوتني , فأمرض .
كم فرصة ذهبت فعادت غصةً تُشجي بطول تلهف وتندم
أقول ما سمعتم واستغفر الله ...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه , و الشكر له على توفيقه و امتنانه , و أشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه , و أشهد أن محمدا عبد الله و رسوله الداعي إلى رضوانه , عليه و على آله و أتباعه و إخوانه أتم الصلاة و أكمل التسليم .
أما بعـــــد
فيا عباد الله
لنأخذ بأيدي شبابنا ولنرفع من هممهم , فالتشجيع ورفع الهمة له أثره البالغ , والتثبيط وحط الهمة , مؤذن بخرابها .
فهذا العلامة الشيخ سليم البخاري رحمه الله مات وما له مصنف رسالة فما فوقها , على جلالة قدره , وكثرة علمه , وقوة قلمه , وشدة بيانه , وسبب ذلك أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق , كتبها بلغة سهلة عذبة , وعرضها على شيخه , فسخر منه وأنبه وقال له : أيها المغرور ! ابلغ من قدرك أن تصنف , وأنت .... وأنت ..... .ثم أخذ الرسالة فسجر بها المدفأة , فكانت هي أول مصنفات العلامة سليم البخاري وآخرها.
فالتشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر , وتؤتي أكلها , ورب شاب يترقى في المعالي بتشيع والديه ومعلمه ومربيه , وآخر تكسر همته بخلاف ذلك . هذا وصلوا .....
عباد الله إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون , و أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم , و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها فقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون فاذكر الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم
و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون .