×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

العارفون بالله

التحرير
بواسطة : التحرير
العارفون بالله
الجمعة 25/5/1429هـ




الحمد لله ؛ خلق الخلق بقدرته ، وكتب آجالهم وأرزاقهم بحكمته ، نحمده حمد الشاكرين ، ونستغفره استغفار المذنبين ، ونسأله من فضله العظيم ؛ فله سبحانه في رمضان هبات وعطايا لا تنقضي ، وخزائنه عز وجل لا تنفد ، وهو القائل سبحانه( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) لو أعطى كل سائل مسألته ما نقص ذلك في ملكه إلا كما ينقص البحر إذا أدخل البحر ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ عظيم في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ؛ فهو الملك الحق الكبير ، وهو العليم الخبير ( له ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير) ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ عرف ربه تمام المعرفة ، وقدره حق قدره ، فتبرأ من كل حول وقوة إلا من الله تعالى ، ونصب في طاعته سبحانه ساجدا وقائما ، وفي عشر رمضان كان يعتزل الدنيا وما فيها، معتكفا في مسجده ، خاليا بربه ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد : فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل ؛ فإنها النجاة للعبد في الدنيا والآخرة ، وما قيمة الإنسان بلا إيمان ولا تقوى
( وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ).




أيها المسلمون
القلوب بما تحمل من إيمان و عقيدة , فالقلوب الممتلئة بحب الله , لها مواقف مشرفة , تحار لها العقول , و تضطرب عندها الأذهان , و لكنها حقائق مسلمة , عند من تعلق قلبه بالرحمان .
فهذا المصطفى (ص) حينما قرر الهجرة إلى المدينة و ذهب هو
و أبو بكر الصديق رضي الله عنه فمكثا في غار ثور ثلاث ليالي و قررت قريش في جلسة طارئة أن تستخدم جميع الوسائل , للقبض عليه و على صاحبه ,
و قررت إعطاء مكافأة ضخمة لمن يحضرهما حيين أو ميتين , و حينئذ, جدت الفرسان و المشاة في الطلب , و انتشروا في الجبال و الوديان ,
و الوهاد و الهضاب , لكن بدون جدوى , و الرسول (ص) لا زال مختبئاً هو و صاحبه في الغار , و يصل المطاردون إلى باب الغار , و لكن الله غالب على أمره , يقول أبو بكر : كنت مع النبي (ص) في الغار فرفعت رأسي , فإذا أنا بأقدام القوم , فقلت : يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا , قال : اسكت يا أبا بكر ,اثنان الله ثالثهما , و في لفظ : ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما , فرجع المطاردون حين لم يبق بينهم و بينه إلا خطوات معدودة .
قال ابن الجوزي رحمه الله - : العارف بالله تقل عنده مرارات الأقدار , لقوة حلاوة المعرفة , و ليس في الدنيا و لا في الآخرة أطيب عيشاً من العارفين بالله عز و جل , فإن العارف به مستأنس به في خلواته , فإن عمت نعمة علم من أهداها , و إن مرّ مرٌّ حلا مذاقه في فيه , لمعرفته بالمبتلي .
يا منتهى الآمال أنت كفلتني و حفظتني
و عدا الزمان علي كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
و كسوتني ثوب الغنى و من المغالب صنتني
فإذا سكت بدأتني و إذا سالت أجبتني
من الناس من يعرف الله بالجود و الإفضال و الإحسان , و منهم من يعرفه بالعفو و الحلم و التجاوز , و منهم من يعرفه بالبطش و الانتقام , و من منهم من يعرفه بالقهر و الملك و منهم من يعرفه بإجابة دعوةِ , و إغاثةِ لهفةِ , و قضاء حاجةِ .
و اعم هؤلاء معرفة من عرفه من كلامه , فإنه يعرف رباً , قد اجتمعت فيه صفات الكمال , و نعوت الجلال , منزه عن المثال , بريء من النقائص و العيوب , فعال لما يريد , قادر على كل شيء .
قال بعضهم : من أمارات المعرفة حصول الهيبة , فمن ازدادت معرفته زادت هيبته .
قال يحيى بن معاذ : يخرج العارف من الدنيا و لم يقض وطره من شيئين : بكاؤه على نفسه , و ثناؤه على ربه .
نعم و الله فلله في قلوب المؤمنين مهابة , و له في صدورهم تعظيم و إجلال فهو العظيم و هو الكريم و هو الحليم خشعت لعظمته الصخور و الجبال
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{21} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{22} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ{23} هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{24}
لقد كان لاسم الله هيبة , و لصفاته جلال في قلوب الأنبياء و المرسلين ,
و الأولياء و الصالحين , و العلماء الربانيين , إذا تذكروا عظمة الله طاشت عقولهم , و وجلت قلبهم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }الأنفال2
يروى أن آدم عليه السلام كان يبكي بعد هبوطه من الجنة حتى يخوض في دمعه , فكان جبريل يأتيه فيقول كم هذا البكاء ؟ و لسان حاله يجيب.
يا عاذل المشتاق دعه فإنه يطوي على الزفرات غير حشاكا
لو كان قلبك قلبه ما لمته حاشاك مما عنده حاشاك
و هذا نوح - عليه السلام كان دائم اللهج بذكر الله , كثير الشكر لله , كثير الحمد لله , لم يأكل شيئاً قط إلا قال : الحمد لله , و لم يشرب شرباً قط إلا قال : الحمد لله , و لم يمش مشياً قط إلا قال : الحمد لله فاثنى الله عليه بقوله : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً }الإسراء3
و زرع إبراهيم - عليه السلام في قلب زوجه هاجر عليها السلام أعظم المعاني و أسماها , فعُمِّر قلبها بجلال الله , و طفحت نفسها أنساً بالله , و توكلاً على الله , فحين جاء بها إبراهيم و بابنها إسماعيل و هي ترضعه , حتى و ضعهما عند البيت , عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ,
و ليس بمكة يومئذ أحد , و ليس بها ماء , فوضعهما هناك , و وضع عندهما جراباً فيه تمر , و سقاء فيه ماء , ثم قفَّى إبراهيم منطلقا , فتبعته أم إسماعيل , فقالت : يا إبراهيم أين تذهب و تتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس و لا شيء ؟ فقالت ذلك مرارا , و جعل لا يلتفت إليها , لا لشيء إلا لأنه أمر الله , و ما كان إبراهيم ليعص ربه , فقالت له : آلله أمرك بهذا ؟ قال نعم قالت : إذا لا يضيعنا الله , ثم رجعت .
و لمحمد بن عبد الله صلوات الله و سلامه عليه مع تعظيم الله شان آخر تقول عائشة رضي الله عنها قام (ص) ليلة من الليالي , فقال : يا عائشة ذريني أتعبد لربي , قالت : و الله إني لأحبك , و أحب ما يسرك , قالت : فقام فتطهر , ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره , ثم بكى , فلم يزل يبكي حتى بل الأرض , و جاء بلال يؤذن بالصلاة فلما رآه يبكي , قال : يا رسول الله تبكي و قد غفر لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبداً شكورا , لقد نزلت عليّ الليلة آياتٌ و يلٌ لمن قرأها و لم يتفكر فيها { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ{190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
و على ذلك كان أصحابه رضي الله عنهم فقد كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من كثرة البكاء , و كان يسمع بكاؤه من آخر الصفوف , و سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ }الطور7 فسقط مغشياً عليه , و بقي أياماً مريضا يزوره الناس , و كان إذا أظلم عليه الليل يضرب قدميه بالدرة , و يقول لنفسه : ماذا عملت اليوم يا عمر ؟
و كان ينعس و هو قاعد , فقيل له : ألا تنام يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا نمت الليل ضيعت حظي مع الله , و إذا نمت النهار ضيعت رعيتي .
و لقي راعياً في يوم من الأيام فقال له : بعنا شاة من غنمك , فقال الراعي : الغنم لسيدي و ليست لي , فقال له عمر : قل له أكلها الذئب , فقال الراعي : فأين الله ؟ فأخذ عمر يبكي , و يقول : إي و الله أين الله ؟
إي و الله أين الله ؟
و حين حصرته الوفاة يقول لابنه : ضع خدي على التراب على الله أن يرى حالي فيرحمني.
و كان علي بن أبي طالب صواماً قواماً , فارساً بالنهار , راهباً بليل , صلى صلاة الفجر في يوم من الأيام فجلس حزيناً مطرقا , فلما طلعت الشمس قبض على لحيته , و بدأ يبكي و يبكي , ثم قال : لقد رأيت أصحاب النبي (ص) فما رأيت شيئاً يشبههم , كانوا يصبحون شعثاً غبرا صفرا , بين أعينهم كأمثال ركب المعزى من كثرة السجود , قد باتوا لله سجداً و قياما , يراوحون بين جباههم و أقدامهم , فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح , و هطلت أعينهم بالدموع ,
و الله لكأن القوم باتوا غافلين .
هذه بعض أخبارهم , و لو ولجنا لطال بنا المقام .
فاللهم املأ قلوبنا بعظمتك و حبك يا رب العالمين .
أقول ما سمعتم و استغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين فاستغفروه وارجوه إنه هو الغفور الرحيم .


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه و الشكر له على توفيقه وامتنانه و اشهد أن لا إلهإلا هو تعظيماً لشأنه و اشهد أن محمد عبد الله و رسوله الداعي على رضوانه صلى الله عليه و على له و صحبه و سلم تسليما مزيدا على يوم الدين .
أما بعــــد
فيا عباد الله قال ابن القيم رحمه الله - معرفة الله سبحانه نوعان , الأول : معرفة إقرار و هي التي اشترك فيها الناس البر و الفاجر و المطيع و العاصي .
و الثاني : معرفة توجب الحياء منه و المحبة له و تعلق القلب به و الشوق إلى لقائه و خشيته و الإنابة إليه و الأنس به و الفرار من الخلق إليه , و هذه هي المعرفة الخاصة . فكن يا أخي من أهل المعرفة الخاصة .
كن ممن يخشى الله , و يحب الله , و يشتاق إلى لقاء الله , و يستحيي في الظلمات أن يعصي الله ,
و إذا خلوت بريبة في ظلمة و النفس داعــــية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله و قل لها إن الذي خلق الظلام يراني
كن منيباً إلى الله لتأنس بالله , كن مع الله و لاتخشى غيره و لا سواه ,
كن من أهل الآخرة , و لا تكن من أهل الدنيا , كن من أهل الخيرات و لا تكن من أهل العثرات , كن مع الله , و استعن بالله , و سر إلى الله , فو الله لن يخيبك الله , و لن يطرد عبده إذا أتاه . هذا و صلوا و سلموا..... اللهم أعز الإسلام و المسلمين .. اللهم اغثنا ...ربنا آتنا ... سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين


بواسطة : التحرير
 0  0  2989