×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

الصحابة

التحرير
بواسطة : التحرير
الصحابة
الجمعة 11/11/1430هـ



الحمد لله ؛ أنعم علينا بالإسلام ، وبعث إلينا خير الأنام ، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس ، أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق ؛ فهدى به من الضلالة ، وأرشد به من الغواية ، , وأبان به الحق من الباطل ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين0
أما بعد
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى وتوبوا إليه توبة نصوحاً.
إخوة الإيمان: إن التاريخ لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم، ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسّمو، ثم نذروا لها حياتهم على نسقٍ تناهى في الشجاعة والتضحية، والبذل، كما شهد في صحابة رسول الله .
لقد جاء الصحابة في أوانهم المرتقب، ويومهم الموعود، وحين كانت الحياة تُهيب بمن يجدّد لقيمها الروحية، شبابَها وصوابها، جاء هؤلاء مع رسولهم الكريم مبشرين ومنذرين.
وحين كانت الحياة تعيش أسوأ مراحل عقل الإنسان، حين هبط إلى مدارك الوثنية، التي كسرت فقارها واعتصرت روحها جاء هؤلاء روّاداً ومستشرفين لمستقبل أفضل في ظلّ توحيد الله جل وعلا.
كيف أنجز أولئك الأبرار كلّ هذا الذي أنجزوا في بضع سنين، كيف دمدموا على العالم القديم بقيصريّاته، وصولجانه، وحوّلوه إلى كثيب مهيل؟. كيف شادوا بقرآن الله، وكلماته، عالما جديداً يهتزّ نضارة، ويتألّق عظمة، ويتفوق اقتداراً؟.
وقبل هذا كله، وفوق هذا كله، كيف استطاعو في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني، بحقيقة التوحيد، ويكنسوا منه إلى الأبد وثنية القرون؟! تلك هي معجزتهم الحقة التي تميزوا بها، وتلك هي مفخرتهم التي فاخروا فيها التاريخ.
ولنقترب في خشوع وغبطة من أولئك الرجال الأبرار، لنستقبل فيهم أروع نماذج البشرية الفاضلة وأبهاها، ولنرى تحت الأسماء المتواضعة أسمى ما عرفت الدنيا من عظمة ورُشد، ولنشهد كتائب الحق وهي تطوي العالم بأيمانها، زاحمة جوّ السماء برايات الحقيقة الجديدة، التي أعلنوا بها توحيد الرب، وتحرير الخلق.
أيها الإخوة المؤمنون
هذا رجل من أصحاب محمد ، ما أجمل أن نبدأ به الحديث: غرة فتيان قريش، وأوفاهم بهاءً وجمالا وشبابا، بل كان أعطر أهل مكة في زمانه، إنه مصعب بن عمير شاب من شباب قريش، ما أن سمع بالرسالة التي جاء بها محمد الأمين إلا وكان هذا الفتى من شباب الدين الجديد المضحين لأجله، وكانت أم مصعب خناس بنت مالك قوية النفوذ، وظل مصعب يتفادى غضب أمه التي لا تعلم بإسلامه، ولا بتردُّده على دار الأرقم.
ولكنها علمت في نهاية الأمر، وغضبت وحبسته في ركن قصي من الدار، ثم فرّ بدينه إلى الحبشة بعد أن ترك وراءه زينة الدنيا ومباهجها.
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوسً حول رسول الله فما أن أبصروا به حتى حنوا رؤوسهم وذرفت عيونهم دمعاً شجياً، ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقّعا باليد، وتذكروا صورته قبل إسلامه، فقال لهم رسول الله : ((لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، لقد ترك ذلك كله حباً لله ورسوله)).
وهاجر بعد إلى المدينة بعد أن اختاره الرسول لأعظم مهمة حينها، لأن يكون سفيره إلى المدينة يفقّه أهلها ويدعوهم إلى الإسلام، ونجح في مهمته نجاحاً منقطع النظير.
وقدم رسول الله إلى المدينة وبدأت المعارك بينه وبين مشركي مكة: بدرٌ ثم أحد، وكان مصعب هو حامل الراية يوم أحد، يقول ابن سعد فيما رواه في الطبقات: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، ثم أخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندقّ الرمح، ووقع مصعب، وقبل أن يسقط اللواء تلقاه علي بن أبي طالب ، وجاء الرسول وأصحابه بعد المعركة يتفقدون شهداءهم، ووقفوا دامعي الأعين عند جثمان مصعب الخير. يقول خباب بن الأرت: (هاجرنا مع رسول الله في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من قضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفّن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برز رأسه، فقال لنا رسول الله (ص): ((اجعلوها ممّا يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر))، ووقف رسول الله على مصعب بن عمير، وقال: وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما: ((لقد رأيتك بمكة وما بها أرقّ حلةً ولا أحسن لمّة منك، ثم ها أنت ذا شعث الرأس في بردة))، هذا مصعب بن عمير وهذه هي همّته.
وقلّب الطرف في سيرة ذلك الجيل، تتجدد لك معاني الثبات والبطولة والفداء، نعم في الخامسة عشرة، يعدو في الأسواق شاهراً سيفه ميمّما يبحث عن رسول الله (ص) ، كان هذا الفتى هو الزبير بن العوام سمع هيعة فظنّ أن رسول الله (ص) قد أصيب بسوء، فاحتمل سيفه وانطلق يبحث عنه حتى إذا وصل إليه رآه النبي (ص) على تلك الحال، قال: ما بك يا زبير قال: يا رسول الله سمعت هيعة فخشيت أنك أصبت بسوء؛ قال: وماذا كنت تفعل؟ قال: كنت أضرب بسيفي هذا من أصابك، فدعا له النبي بخير، هذه همّته، وربّى عليها ابنه عبد الله، فقد شهد عبد الله بن الزبير معركة اليرموك وعمره اثنا عشرة سنة، قد ركب فرسا ووكل به والده الزبير رجلا يمسك فرسه من أن يقتحم به وسط المعركة.
هكذا كانت تصنع نفوس ذلك الجيل، وعلى هذا النحو كانت تربي، فداء وتضحية لأنبياء الله للدعوة إلى الله بالغالي والنفيس.
ثم إلى درس عظيم من دروس الفداء مع خبيب بن عدي، حينما أسره المشركون في مكة وراحوا يُساومونه على إيمانه، ويلوحون له بالنجاة إذا هو كفر بمحمد ، ومن قبل بربه الذي آمن به، لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل.
وحينما يئسوا مما يرجون قادوه إلى التنعيم حيث يريدون قتله، واستأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين، فأذنوا له، وصلى خبيب ركعتين في خشوع وثبات، ثم التفت صوب قاتليه، وقال لهم: ((والله لولا أن تحسبوا أن بي جزعاً من الموت لازددت صلاة))، ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزّع
وبدأت الرّماح تنوشه، والسيوف تنهش لحمه، فاقترب منه أحد زعماء المشركين، وقال له: أتحب أن محمداً في مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك، فانتفض خبيب كالإعصار وصاح بهم: (والله ما أحب أني في أهلي وولدي معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة)، ثم قال: (اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا)، واستجاب الله دعاءه، فبلغ رسول الله حال خبيب فدعا له واستغفر وترحّم له.
وأنتقل بكم إلى أسطورة من أساطير الشجاعة والجهاد في سبيل الله، إنه من إذا أقسم على الله أبرّه، إنه البراء بن مالك، ومما يشهد له موقفه يوم اليمامة في جهاد الردة حين راح البراء يجندل أتباع الكذّاب مسيلمة بسيفه، واندفع المرتدون هاربين إلى الوراء حتى احتموا بحديقة في حصن كبير، ولاذوا بها وأقفلوا عليهم بابها، وكادت المعركة أن تنتهي بحيلة أولئك لولا أن الله يسّر البراء بن مالك، فقد صاح بالمسلمين بأن يحملونه على ترس ويلقون به من أعلى باب الحديقة على المرتدين، وكما قال أبو بكر : (احرص على الموت توهب لك الحياة)، فحمله المسلمون ثم اعتلى الجدار وسقط عليهم يبارزهم بسيفه لوحده داخل الحديقة حتى فتح الباب واقتحمته جيوش الإسلام بعد أن تلقى من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة خلّفت جرحاً غائراً.
بالله عليكم إخوة الإيمان حدثوني عن أصحاب دين افتدوه بمثل هذه البطولات.
كنا جبالا في الجبال وربماصرنا على موج البحار بحاراً
بمعابد الإفرنج كان آذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لن تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
إننا حين نأخذ غيضا من فيض هذه السير العطرة، والتضحيات النبيلة، إنما نريد نماذج دالة، والسيرة ملأى بما يرفع الهمم، ويذكر العزائم من قصص هؤلاء الصحابة الأبرار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }الفتح29
بارك الله ولي ولكم في الفرقان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، يمنّ على من يشاء من عباده بهدايته للإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واسع الفضل والآلاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كان خلقه القرآن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: لقد استشرفنا عظمة صحابة رسول الله عن قرب، وصحبنا خلال لحظات مشرقة ثلّة مباركة منهم، وفي هؤلاء الثلّة نرى صور جميع الأصحاب، نرى إيمانهم وثباتهم وبطولتهم وتضحياتهم وولاءهم وعدلهم، نرى البذل الذي بذلوا، والنصر الذي أحرزوا، والدور الذي نهضوا به لتحرير البشرية بأسرها من وثنّية الضير وضياع المصير.
أيها الأحبة
ألا نملك مثل تلك الطاقات التي كانت في صفوف الصحابة، ألا نحيي مثل أمجاد الصحابة رضوان الله عليهم في نفوس شبابنا.
إنها دعوة إليكم أيها المربون والأولياء، أيها الناصحون والكتاب والأدباء أن تأخذوا بأيديكم وبحجز شبابكم لنرد إلى مناهل سيرة النبي وصحابته ورود العطشان، وأن نجعل همّ شبابنا في قضايا أمته ودعوته، وأن يكون قدوتهم تضحية مصعب، وفداء خبيب، وحماية الزبير وشجاعة البراء، وإيمان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
اسأل الله العظيم جلّت قدرته أن يهيأ النصر لهذه الأمة على جميع أعدائها وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعزّ فيه أهل الطاعة ويهدى فيه أهل المعصية، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

بواسطة : التحرير
 0  0  2624