×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

الغناء بين التحليل والتحريم

لا أعتقد أن الخلاف في المسائل الفرعية شيء سيء بل على العكس من ذلك لأن الاختلاف في الاجتهاد في فهم النص قد حدث في أفضل العصور على الإطلاق عصر النبوة , فحين رجع النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ من الأحزاب قال للصحابة : ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريضة) فانقسم الصحابة في فهم النص إلى قسمين: فمنهم من فهم أن القصد الإسراع في المشي فصلى العصر في الطريق قبل أن يصل بني قريضة ومنهم من التزم بمفهوم النص فلم يصل إلا في بني قريضة بعد أن غربت الشمس, ومع ذلك لم يعنف النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أحد الفريقين بل قبل اجتهادهم وفي هذا توجيه وتشريع لنا بأن نقبل بعضنا في المسائل الاجتهادية.
وسبب آخر أن الاختلاف في الفروع قد حدث في جميع العصور الإسلامية واختلف فيها من هو أكثر منا علماً وزهداً وورعاً وخدمة لهذا الدين فقد اختلف كبار أئمة المذاهب الإسلامية على مر التاريخ وبعضهم تتلمذ على من اختلف معه ومع ذلك كانوا يقبلون الاختلاف ويتعاملون معه على أنه شيء طبيعي , بل إن بعضهم ربما التمس العذر للآخر وقال لعل الحق معه وبرر له ما توصل إليه من حكم في المسألة الاجتهادية.
إن الاختلاف في الفرعيات , وقبول الرأي والرأي الآخر , والجلوس على طاولة الحوار, والرجوع عن الرأي إذا تبين خطؤه دليل على نضج المجتمع فكرياً ودليل أيضاً على تحرر العقل من قيود الآراء الشخصية والانغلاق الفكري المقيت , وإن الحجر على الرأي وتبادل الاتهامات والخوض في النيات وشخصنة الأمور دليل على أحادية الرأي والتصلب والتشدد الذي قد يفضي إلى ما وصلت إليه الأمة من خلافات وقتل وترويع للآمنين لأن الذي يقتل المسلم ويستحل ماله وعرضه باسم الدين لو قبل الرأي الآخر لم يفعل شيئاً من هذه المنكرات.
قلت هذا بين يدي حديثي عن الفتوى الأخيرة لفضيلة الشيخ عادل الكلباني والتي أباح فيها الاستماع إلى الغناء جملة وتفصيلا , وعرض في بيانه الأخير مجموعة من الأدلة والأقوال التي تؤيد ما ذهب إليه , وقبل ذلك فعل مثله الشيخ العبيكان في إباحته إرضاع الكبير, والغامدي في إباحته الاختلاط
وحيث إن حديثي هنا مقتصر على فتوى (فتيا) إباحة الغناء فسأتحدث عنها من موقع الحياد لا من موقع المفتي فقد كفاني من هو أعلم مني بها وأكثر مني حفظاً وفهما وتطبيقاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهم ابن باز وابن عثيمين والكلباني والقرضاوي وغيرهم من أئمة المسلمين.وسأعرض بشيء من التركيز والموضوعية أدلة المانعين وأدلة المجيزين وتعليلاتهم على هذه الأدلة وأترك المجال للقارئ الكريم لينظر ويتدبر ويسأل من يثق برأيه من أهل العلم و يقرر بعدها هل الغناء من الأمور المحرمة أم المباحة.
أولاً : أدلة المانعين :من القرآن الكريم قوله تعالى: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } سورة لقمان: (6) قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } فقال: والله الذي لا إله غيره هو الغناء - يرددها ثلاث مرات - وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء.."
أدلة التحريم من السنة النبوية الشريفة:
1 ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ): « ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير و الخمر و المعازف ...) رواه البخاري تعليقًا برقم 5590، ووصله الطبراني والبيهقي وأبو داوود، راجع السلسلة الصحيحة للألباني 91
وقد أقرّ بصحة هذا الحديث أكابر أهل العلم منهم الإمام ابن حبان، والإسماعيلي، وابن صلاح، وابن حجر العسقلاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والطحاوي، وابن القيم، والصنعاني، وغيرهم كثير.

وفي الحديث دليل على تحريم آلات العزف والطرب من وجهين:

أولهما قوله صلى الله عليه وسلم: "يستحلون"، فإنه صريح بأن المذكورات ومنها المعازف هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك القوم.

ثانيًا: قرن المعازف مع ما تم حرمته وهو الزنا والخمر والحرير، ولو لم تكن محرمة - أى المعازف - لما قرنها معها" (السلسلة الصحيحة للألباني 1/140-141 بتصرف). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فدل هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها"
2ـــ روى الترمذي في سننه عن جابر رضي الله عنه قال: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخيل، فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فوضعه في حجره ففاضت عيناه، فقال عبد الرحمن: أتبكي وأنت تنهى عن البكاء؟ قال: إني لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه وشق جيوب ورنة » (قال الترمذي: هذا الحديث حسن، وحسنه الألباني صحيح الجامع 5194.

3 ــ قول النبي ــ صلى الله عليه و سلم ــــ: « صوتان ملعونان، صوت مزمار عند نعمة، و صوت ويل عند مصيبة » (إسناده حسن، السلسلة الصحيحة 427

4 ـــ روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ليكونن في هذه الأمة خسف، وقذف، ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف » السلسلة الصحيحة 2203
5 ـــ عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير * ( صحيح ) _ المشكاة 4292 ، الروض 452 ، الصحيحة 138/1 -

6 ـــ قول النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ: « إن الله حرم على أمتي الخمر، والميسر، والمزر، والكوبة، والقنين، وزادني صلاة الوتر » (صحيح الجامع 1708).
7 ــــ روى أبو داوود في سننه عن نافع أنه قال: « سمع ابن عمر مزمارًا، قال: فوضع اصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئا؟ قال: فقلت: لا ! قال: فرفع أصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع مثل هذا! فصنع مثل هذا » صحيح أبي داوود 4116.
و علق على هذا الحديث الإمام القرطبي قائلا: "قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم؟!"الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
ثانياً : أدلة المجيزين :
1 ـ رد المجيزون لسماع الغناء على المانعين فيما يخص قوله تعالى في سورة لقمان { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } بأن لهو الحديث ليس المقصود به الغناء لأن الغناء قد يسمى لهوًا ولكنه لا يسمى حديثاً فالمقصود باللهو عندهم أي حديث باطل يضل عن سبيل الله كالغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء وغيرها وقالوا بأن تفسير ابن مسعود وغيره إذا خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي استمع الغناء كما سيأتي فإنه لا يعتد به وأما الكوبة فقد فسرت عدة تفسيرات فقيل إنها الطبل وقيل النرد وقيل غير ذلك.
2 ـــ استماع النبي صلى الله عليه وسلم لغناء الجاريتين يوم العيد فعن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى ( في عيد الأضحى ) تغنيان وتضربان والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي (صلى الله عليه وسلم) عن وجهه وقال : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد. صحيح أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد وعن عائشة قالت دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار في يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أبمزمور الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد الفطر فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا * صححه الألباني عن ابن ماجة.
3 ــ قالوا بأن حديث : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير و الخمر و المعازف قد علقه البخاري ورده ابن حزم وغيره.
4ـــ عن بريدة : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه ، فلما انصرف ، جاءت جارية سوداء ، فقالت : (يا رسول الله ! إني نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فذكره . فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخل عمر ، فألقت الدف تحت أستها ، ثم قعدت عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ! إني كنت جالسًا وهي تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف . ( صحيح قلوا فلو كان الغناء محرماً ما سكت عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
5 ـــ قول عائشة رضي الله عنها: لقد رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم ) يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأمه فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو (متفق عليه)
6 ـــ عن عائشة ( ر ضي الله عنها) أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا عائشة ما كان معهم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو صحيح أخرجه البخاري وهو في آداب الزفاف
وبهذا يتبين لنا من العرض السابق أهمية قبول الرأي الآخر حتى ولو خالف ما نعتقده وأن نلتمس العذر لمن خالفنا ونقول في أنفسنا لم لا يكون الحق معه وخاصة إذا لم ينفرد بهذا الرأي , وأن نناقش الأفكار بمعزل عن الأشخاص , فكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذلك القبر عليه الصلاة والسلام . وأما العمل فهو موكول إلى الإنسان نفسه, فلا ننكر أبدًا على من قال بتحريم الغناء ولا من منع نفسه من سماعه , وفي نفس الوقت لا نشنع ونبدع ونفسق من قال بجواز الاستماع , لأنه مجتهد ولديه أدلة قوية كما مر معنا سابقاً ولا ننكر على من يريد أن يعمل بهذه الفتيا فذنبه على من أفتاه
7 ـ قالوا بأن المعازف إنما حرمت لعلة أخرى وهي اقترانها بشرب الخمر فأما إذا كانت لوحدها فإنها ليست محرمة.
وقبل أن أختم هذا المقال أشير إلى رأي الفريق المعتدل في هذه المسألة والذي وقف في منتصف الطريق بين القائلين بالتحريم والإباحة وهو الرأي الذي يرى حرمة الغناء مع آلات اللهو كالموسيقى ونحوها وجوازه بدونها وهو الرأي الوسط الذي ترتاح له النفس ويطمئن إليه الفؤاد لأنه يتناسب مع الوسطية التي جاءت بها أحكام الشريعة الإسلامية في جميع أحوالها.


عبدالله مرعي الشهري
 0  0  8693