حادثة الافك
حادثة الافك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين .
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على إمام الموحدين الذي بعثته بالهدى ودين الحق ففتحت برسالته أعينا عميانا وأذانا صما وقلوبا غلفا وعلى آله وصحبه وأتباعه الذين قضوا بالحق و به كانوا يعدلون ومن سار على نهجه واقتفى أثرهم إلى يوم الدين .
عباد الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوا الله رحمكم الله فهي الحبل المتين والنور المبين ، وبها النجاة بإذن الله من الفتن وهي المخرج عند نزول المحن .
يقول الحق جل وعلا وهو يعدد نعمه على عباده : " ألم نجعله عينين * ولسانا وشفتين" وفي هذا المقام سنتحدث فقط عن نعمة واحدة ألا وهي اللسان وإن شئت أن تعرف قدر هذه النعمة فتخيل نفسك ـ عافاك الله ـ أبكم لا تنطق بكلمة
عباد الله : لقد أساء أقوام استخدام هذه النعمة فأصبحت تردد وتتكلم بما حرمه الله أعراض تنتهك .. ولحوم تؤكل .. وفتن توقظ .. وشائعة تذاع .. وكذب يقال .. وحق يكتم .. وباطل يعلن .. وزور ينطق .. وملائكة ربي تكتب وصدق الله "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " والله يسمع ويرى .
أيها الأخوة : وفي القصص عبرة وفي الأيام تذكرة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .و سأتلو عليكم إن شاء الله نبأ ما حادثة في عصر النبوة ينزل بها الوحي على الحبيب صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ وصاحبة الحدث هي الصديقة بنت الصديق زوجة محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة أم المؤمنين المبرأة من فوق سبع سموات إنها عائشة بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنها ـ وعن أبيها وسنترك الكلام لها لتروي لنا هي حادثة الإفك روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فقضيت حاجتي ثم عدت فلمست صدري فإذا عقد لي قد انقطع فرجعت أبحث عنه فوجدته ثم عدت إلى مكان الجيش فلم أجد أحدا فجلست في مكاني وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي يسير وراء الجيش فرأى سواد إنسان نائم فقال إنا لله وإنا إليه راجعون فاستيقظت باسترجاعه فأناخ راحلته فركبتها والله ما تكلم بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه فانطلق يقود الراحلة حتى لحقنا بالجيش في نحر الظهيرة . فهلك من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فمرضت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض إنما يدخل فيسلم علي ثم يقول كيف تيكم؟ ولم أكن أشعر بشيء مما يقولون في الإفك ثم خرجت مع أم مسطح فتعثرت في الطريق فقالت تعس مسطح وكان ممن تكلم في الإفك فقلت بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا فقالت يا هنتاه الم تسمعي ما قالوا ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى بيتي دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال كيف تيكم ؟ فقلت ائذن لي أن اذهب إلى أبوي وأنا حينئذ أريد أن استيقن الخبر فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لامي : ما يتحدث به الناس فأخبرتني فقلت سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا ! قالت فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم ثم أصبحت فدعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد يستشيرهما في فراق أهله فأما أسامة فقال اهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال يا بربرة هل رأيت فيها شيئا يريبك ؟ فقلت لا والذي بعثك بالحق .
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه خطيباً فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي ولا غبت في سفر إلا غاب معي فقام سعد بن معاذ فقال يا رسول الله : أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه وان كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عباده وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك فقام أسيد بن حضير فقال كذبت لعمر الله والله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين . فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله على المنبر فخفضهم حتى سكتوا وسكت وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي وكان عندي أبوي فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فتشهد ثم قال : يا عائشة فانه قد بلغني عنك كذا وكذا فان كنت بريئة فسيبرئك الله وان كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فان العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه .
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلت لأبي اجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله ما ادري ما أقول لرسول الله فقلت لامي أجيبي عني رسول الله قالت والله ما ادري ما أقول لرسول الله قالت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت أما بعد إني والله لقد علمت إنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في نفوسكم وصدقتم به ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني ولئن قلت لكم أني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون "
وأنا أرجو أن يبرئني الله ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيا ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقران في أمري ولكني كنت ارجوا أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله فوالله ما غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه حتى نزل عليه الوحي فقال وهو يا عائشة ابشري فقد برأك الله فانزل تعالى " إن الذين جاؤوا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم لهم عذاب اليم " هذه هي حادثة الإفك التي انزل فيه خمس عشرة آية تتلى إلى قيام الساعة
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العلمين ولي الصالحين ولا عدون إلا على الظالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وخاتم المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فإن في حادثة الإفك دروسا وعبرة كثيرة نذكر منها :
1ـ خطر المنافقين الذين يستغلون الأحداث لينالوا من المؤمنين .
2ـ خطر الشائعات التي لا أساس لها من الصحة والتي يتناقلها الناس بينهم دون معرفة لحقيقتها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " رواه مسلم .
3ـ وجوب التثبت عند سماع الخير فقد قال تعالى :" يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ..." الآية .
4ـ بيان خطر اللسان والتحدث في أعراض الناس قال تعالى :" إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيما " .
5ـ بيان عظيم أثر الذين يسعون في الإفساد بين الناس قال سبحانه :" والذي تولى كبره منهم له عذاب أليم " وقال عليه الصلاة والسلام :" تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه هؤلاء " متفق عليه .
6ـ الأصل براءة المسلم حتى تقوم البينة على ذلك قال تعالى :" لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم سبحانك هذا بهتان عظيم " .
وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد نزاهة وأعظم حرمة من غيره .
7ـ عدم نشر كلام الفحش والتحدث به في مجالس قال تعالى :" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين ءامنوا لهم عذاب أليم " .
وقال سبحانه :" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " .
8ـ عدم إتباع خطوات الشيطان قال تعالى :" يا أيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ..." الآية .
9ـ من حلف ألا يفعل شيئا ثم رأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير .
10ـ أن يتذكر المسلم وقوفه بين يدي ربه وأن الله سائله عما قال وأن جوارحه ستشهد عليه قال تعالى ":يوم تشد عليهم ألسنتهم وأيدهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين " .
ثم صلوا عبادالله وسلموا....