أويس القرني
أويس القرني
الحمد لله يصطفي ما يشاء ويختار وهو الواحد القهار رفع ذكر عباده الأبرار وأذل الظالمين الفجار أشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفار وصلّى الله وسلم وبارك على المصطفى المختار وعلى آله وصحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
عبد الله . أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهو أهل أن يتقى فأخذه شديد وعقابه أليم عطاؤه غير محدود فاتقوه يا أولي الألباب لعلكم تفلحون .
عباد الله : ويبقى الشرفاء الصادقون وعباد الله المخلصين تاجاً على جبين التاريخ وعقداً تتسور به الأيام ومثالاً يُحتذى عبر السنين .
وفي هذا اليوم نعيش لحظات عجيبة ومواقف غريبة تستلذ بسماعها الآذان وتطمئن بسيرتها القلوب وتذرف العيون دموعها شوقاً إلى تلك القمم الشامخة والأمثلة السامقة
الله يعلم ما قلبت سيرته ** يوماً فأخطأ دمع العين مجراه
إنه التابعي الجليل المعلم الفذ أويس بن عامر القرني ، وإني أجزم أن كثيراُ لا يعرفون هذا التابعي ولكن والذي نفسي بيده إنه لن يضره أن يجهله عصر العولمة أو الانفجار المعرفي أو عامة الناس أو كثيراً من خواصهم . لقد عرفه علام الغيوب وزكاه رسول الله الأمين وحرص على رؤيته وطلب الاستغفار منه شيوخ المهاجرين .
لقد وطأ بقدمه التضخيم والتفخيم وحب الظهور ومناظر التطاول والخيلاء والفخر بالأحساب والطعن بالأنساب.
لقد أثبت حقيقة دينية شرعية وهي أن الرفعة الحقيقية تكون بتقوى الله . روى مسلم في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « خير التابعين رجل يقال له أويس » .
وأقبلوا بقلوبكم رحمكم الله أقص عليكم سيرته :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله عزّ وجل يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء الأبرياء الشعثة رؤوسهم الغبرة وجوههم الخمصة بطونهم إذا استأذنوا لم يؤذن لهم وإن خطبوا المتنعمات لم يُنكحوا وإن غابوا لم يفتقدوا وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم وإن مرضوا لم يعاودوا وإن ماتوا لم يُشهدوا قالوا يا رسول الله كيف لنا برجل منهم قال ذاك أويس بن عامر القرني قالوا وما أويس قال رجل مجهول في الأرض معروف في السماء لو أقسم على الله لأبرّه ألا وإن تحت منكبه الأيسر لمعة بيضاء ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد ادخلوا الجنة ويقال لأويس قف فاشفع فيُشَفِّعه الله في مثل ربيعة ومضر يا عمر يا علي إذا أنتما لَقِيتُماهُ فاطلبا إليه أن يستغفر لكما يغفر الله لكما » .
فمكث عمر وعلي رضي الله عنهما يبحثان عنه عشر سنين لم يجداه فلما كان في آخر السنة التي مات فيها عمر قام عمر على جبل أبي قبيس فنادى بأعلى صوته يا أهل الحجيج من أهل اليمن أفيكم أويس ؟ فقام شيخ كبير فقال إنا لا ندري ما أويس ولكن ابن أخٍ لي يقال له أويس وهو أخمل ذِكراً وأقل مالاً وأهون أمراً من أن نرفعه إليك وإنا تركناه يرعى إبلنا ، قال عمر أين أجده قال تجده بعرفات . فركب عمر وعلي إلى عرفات فوجداه قائماً يصلي إلى شجرةٍ والإبل ترعى حوله فقالا له : السلام عليك ورحمة الله وبركاته . فقال السلام عليكما ورحمة الله وبركاته ، قالا : من الرجل ، قال راعي إبل وأجير قوم ، قالا : لسنا نسألك عن الرعاية ولا عن الإجارة ما اسمك ؟ قال عبد الله ، قالا قد علمنا أن كل من في السماوات والأرض كلهم عبدٌ لله ما اسمك الذي سمتك أمك ؟ قال يا هذا ن وما تريدان ؟ قالا : وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أويساً القرني وأخبرنا أن تحت منكبك الأيسر لمعة بيضاء فأوضحها لنا ، فإن كانت بك فأنت هو فأوضح منكبه فإذا اللمعة فابتدراه يقيلانه ، وقالا نشهد أنك أويس القرني فاستغفر لنا يغفر الله لك قال : ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحداً من ولد آدم ولكنه في البر والبحر من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، يا هذان قد أظهر الله لكما حالي وعرفكما أمري فمن أنتما قال علي رضي الله عنه
: أما هذا فعمر أمير المؤمنين وأما أنا فعلي بن أبي طالب فاستوى أويس قائماً وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته وأنت يا علي بن أبي طالب فجزاكما الله عن هذه الأمة خيراً ، قالا : وأنت فجزاك الله عن نفسك خيراًَ ، ثم قال : يا عمر إن بين يدي ويديك عقبة لا يجاوزها إلا كل ضامر مخف فأخفف رحمك الله ( يريد الموت وما بعده ).
فلما سمع عمر ذلك ضرب بدرته الأرض ثم نادى بأعلى صوته ألا ليت عمر لم تلده أمه يا ليتها كانت عاقراً لم تحمل ألا من يأخذها بما فيها ولها أي الخلافة ، ثم قال يا أمير المؤمنين : خذ أنت هاهنا حتى آخذ أنا هاهنا فولى عمر ناحية مكة وساق أويس إبله فوافى القوم بإبلهم .
وقد لحق رجل بأويس القرني فسمعه يقول : اللهم إني أعتذر إليك اليوم من كل كبدٍ جائعة فإنه ليس في بيتي من الطعام إلا ما في بطني ، فأتاه رجل فقال : أصبحت أحب الله وأمسيت أحمد الله ، وما تسأل عن رجل إذا هو أصبح ظن ألا يمسي وإذا أمسى ظن أنه لا يصبح إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحاً وإن حق الله في مال المسلم لم يدع له من ماله فضةً ولا ذهباً وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدع للمؤمن صديقاً فأمرهم بالمعروف ينتمون أعراضنا ويجدون على ذلك أعواناً من الفاسقين حتى والله لقد رموني بالعظائم وأيم الله لا أدع أن أقوم لله فيهم بحقه .
توفي في خلافة علي رضي الله عنه ورحمه الله أويساً بن عامر ورفع درجته في المهديين.
السلام عليك يا أويس السلام عليك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حياً .
قال الله تعالى : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب .... ).
الخطبة الثانية
الحمد لله يختص من يشاء برحمته ويسبغ على من يشاء بعظيم منته له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم العليم وصلى الله وسلّم وبارك على نبيه ومصطفاه وحبيبه ومجتباه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى لقاه أما بعد :
أيها الإخوة في الله : إن في حياة أويس القرني رحمه الله عبر وعظات فمنها :
1. الزهد في هذه الدنيا وعند ذكر الزهد يقفز إلى أذهان الناس أن تعيش فقيراً معدماً رَثَّ الهيئة ضعيف البنية لا مال لك ولا هيئة حسنة وهذا فهم سقيم وجهل عظيم وحقيقة الزهد عدم الركون إلى هذه الدنيا وعدم التعلق بها والاطمئنان إليها وألا تلهيك عن طاعة ربك .
لقد تعلقت قلوب أكثر الناس بهذه الدنيا فجعلوها أكبر همهم وغاية علمهم إن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون .
تتقطع قلوبهم حسرة على فوات حظٍِ من حظوظ الدنيا ولا يحركون ساكناً لفوات الأجر
قدموا طلب الدنيا على محبة وعلى أمره قال تعالى : ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون . أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ).
وقال سبحانه : ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً . ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً ).
ويزداد حب الدنيا والتعلق بها في كبار السن ، قال عليه الصلاة والسلام : « يشيب ابن آدم وقلبه شاب في اثنتين : حب الدنيا وطول الأمل » .
ولقد تجرعت الأمة غصص الذل وألوان الهوان وما ذاك إلا لتعلقها بهذه الدنيا . عن ثوبان قال قال : « يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكل إلى قصعتها قالوا أو من قلة نحن يومئذ ؟ قال بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن يا رسول الله قال ( حب الدنيا وكراهية الموت ) . » وقال صلى الله عليه وسلم « إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم » أبو داوود.
واذكروا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمنكبي ثم قال: « كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل » وفهم هذا الرجل الدرس جيداً فكان يقول : إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك
ومن يعلم الدنيا فإني بُليتها **وسيق إلينا عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة ** عليها كلاب همه اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها **وإن تجتذبها نازعتك كلابها
وأما الفائدة الثانية : فهي أن التفاضل بالتقوى وليست بالأحساب والأنساب وأهل الكبر والخيلاء يغشاهم الذل والصغار :
ومما زادني و فرحاً وتيها ** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ** وأن صيّرت أحمد لي نبياً
ومن الدروس : أن في إخباره صلى الله عليه وسلم بأويس معجزةٌ له صلى الله عليه وسلم فقد وقع ما أخبر به عليه الصلاة والسلام.