الصبر ( الصبر على أقدرا الله المؤلمة)
الصبر (1)
الصبر على أقدرا الله المؤلمة
7/5/1430
الصبر على أقدرا الله المؤلمة
7/5/1430
الحمد لله العلي الأعلى؛ خلق فسوى، وقدر فهدى، وأرجأ عباده إلى أجل مسمى [وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ] {سبأ:30} نحمده على وافر نعمه، ونشكره على جزيل عطاياه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الخير بيديه، والشر ليس إليه، خلق عباده ورزقهم وكفاهم، ففاضت على العباد أرزاقه، وما نفدت في السماء خزائنه، ينفق الليل والنهار على البر والفاجر، والإنس والجن، والطير والحيوان، فيكفره أكثر الناس ولا يشكرونه [وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ] {الواقعة:82} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى بالنور والهدى؛ ليعرف الناس حق ربهم عليهم، فيقدروه قدره، ويشكروا نعمه، فبلغهم وعلمهم، وبشرهم وأنذرهم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ وراقبوه في سركم و علانيتكم وارجوه , وعلموا أنكم ملاقوه , فاصبروا على ما أصابكم ,
و ارجوا رحمة خالقكم ومليككم .
عباد الله
روى مسلم في صحيحه عن عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِى ابْنُ عَبَّاسٍ أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى.
قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ إِنِّى أُصْرَعُ وَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِى. قَالَ « إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ. قَالَتْ أَصْبِرُ. قَالَتْ فَإِنِّى أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا.
قال بن حجر رحمه الله الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة .
و قال عمر بن الخطاب وجدنا خير عيشنا الصبر .
و عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ».رواه مسلم
فالمؤمن صابر على المصائب المؤلمة , و الكوارث المفجعة , صابر على البلاء مهما كانت أسبابه , و مهما تشكلت ألوانه , فقد يكون بفقد عزيز , أو حلول نازلة تؤلمه , و قد يكون بفادحة تجتاح ماله , أو علة جسدية مستعصية تعطله عن الحركة .
عبد الله
تحمل ما يصيبك , و تقبله بصدر رحب ؛ و إيمان جازم صادق , و لا تضق بشيء من ذلك ذرعا , و احتسب الثواب عند الله , راضياً بحكمه , مستسلماً لقضائه , موقناً أن ما أصابك , لم يكن ليخطئك , و ما أخطأك لم يكن ليصيبك , و تدرع بالصبر و وطن نفسك عليه , واحذر من الجزع و التسخط , خصوصاً في المفاجأة فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ تَبْكِى عَلَى صَبِىٍّ لَهَا فَقَالَ لَهَا « اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى ». فَقَالَتْ وَمَا تُبَالِى بِمُصِيبَتِى. فَلَمَّا ذَهَبَ قِيلَ لَهَا إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ فَأَتَتْ بَابَهُ فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ « إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ ». أَوْ قَالَ « عِنْدَ أَوَّلِ الصَّدْمَةِ ».رواه مسلم
فصبرك أخي المسلم على ما يشق عليك و يعنتك , من مرض و نصب ولأواء و حزن مكفر للسيئات .
لما أنزل الله قوله تعالى { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ }النساء123
شق ذلك على كثير من الصحابة , ففي مسند أحمد أن أبا بكر قال : يا رسول الله : كيف الصلاح بعد هذه الآية {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ }النساء123
فكل سوء عملنا جزينا به , فقال الرسول (ص) : غفر الله لك
يا أبا بكر ! ألست تمرض , ألست تنصب , ألست تحزن , ألست تصيبك اللأواء ؟ قال : بلى . قال : فهو ما تجزون به .
فالصبر على فقد الأحبة , و الصبر على الأوجاع و الآلام , و الصبر على الأحزان و الهموم , من الأسباب المنجية من مس النار ؛ و الموصلة إلى جنة الأبرار .
عَنْ أَبِى حَسَّانَ قَالَ قُلْتُ لأَبِى هُرَيْرَةَ إِنَّهُ قَدْ مَاتَ لِىَ ابْنَانِ فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا قَالَ قَالَ نَعَمْ « صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ - أى أنهم صغار الجنة لا يفارقونها - يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ - أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ - فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ - أَوْ قَالَ بِيَدِهِ - كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنِفَةِ ثَوْبِكَ هَذَا فَلاَ يَتَنَاهَى - أَوْ قَالَ فَلاَ يَنْتَهِى - حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ ». وَفِى رِوَايَةِ سُوَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو السَّلِيلِ وَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِى ابْنَ سَعِيدٍ - عَنِ التَّيْمِىِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ وَقَالَ فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا قَالَ نَعَمْ.
و عن أبي سنان قال : دفنت ابني سنان , و أبو طلحة الخولاني على شفير القبر , فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأخرجني فقال : ألا أبشرك ! حدثني الضحاك بن عرزب عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله (ص) : إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم . فيقول : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم . فيقول : فماذا قال عبدي ؟ قالوا : حمدك واسترجع . فيقول : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد .
رواه الترمذي و حسنه الألباني .
و في الصبر على العوارض و المصائب قال عليه الصلاة والسلام
: إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة . قال الألباني حديث حسن صحيح . وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط . حسنه الألباني .
فكلما كان امتحان الله للعبد و بلاؤه له أشد ؛ فصبر و احتسب , كلما كان جزاؤه و ثوابه أعظم , و وقوع الابتلاء بالقوم دليل على محبة الله تعالى لهم . عن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة .قال الألباني حديث حسن صحيح .
و الصبر على الأمراض يكفر الله به الخطايا و يمحو به السيئات , ففي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَا مِنْ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ إِلاَّ كُفِّرَ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ».
و في البخاري عن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) .
و عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (ص) : من يرد الله به خيراً يصب منه . و معناه يبتليه بالمصائب , ليثيبه عليها إذا صبر و احتسب , و في هذا بشارة عظيمة لكل مؤمن , لأن الآدمي لا ينفك غالباً من ألم بسبب مرض أو هم أو غم أو حزن , و إن الأمراض و الأوجاع و الآلام بدنية كانت أو قلبية تكفر ذنوب صاحبها . و في حديث عبد الله بن مسعود (ص) و فيه:
ما من مسلم يصيبه أذى ( شوكة فما فوقها ) إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر . أخرجه البخاري ومسلم
فاعلم يا عبد الله , أن المرض إذا اشتد ضاعف الله به الأجر , ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها , و المؤمن ممتحن في الدنيا , مبتلى فيها بما يطهره من الآثام و الذنوب , و يمحصه من الخطايا , و ينقيه من أدران المعاصي .
فإذا نزل بالمؤمن أمر أو حل به خطب فصبر و استسلم ثم فارق الدنيا , فارقها بذنب مغفور نقياً طاهرا . في حديث سلمان إن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا .
و أما من فقد نعمة بصره , فنقول له استسلم لأمر الله و احتسب ما فقد عند الله , و كن راضياً مطمئنا منشرح الصدر لقضاء الله , فهل يدري من فقد بصره ما ثوابه ؟ و هل يعلم ما أعد الله له ؟
إنها الجنة درا السعادة و الخلود , دار الكرامة و النعيم الأبدي , دار الصفاء و السرور . ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول ( إن الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة ) . يريد عينيه . وهذا أعظم العوض .
فاللهم صبرنا على مصائب الدنيا يا رحمن يا رحيم .
أقول ما سمعتم و استغفر الله لي و لكم ولسائر المسلمين فاستغفروه و ارجوه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد
فيا عبد الله
إن الصابرين على المصائب النازلة بهم ؛ من كرب أو بلاء أو مكروه , المسترجعين إلى الله , المقرين بأنهم عبيده و تحت قبضته و تصرفه , يفعل بهم ما يشاء , و يحكم ما يريد , أولائك لهم بشارة طيبة , من رب غفور رحيم {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }البقرة157
روي عن عمر أنه قال : ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم : الأولى : أنها لم تكن في ديني . الثانية : أنها لم تكن أعظم مما كانت . الثالثة : أن الله يجازي عليها الجزاء الكبير .
فالكل منا معرض للمصائب و الابتلاءات , و هنيئاً لمن صبر ,
و هنئا لمن شكر
فبين غمضة عين و انتباهتها يغير الله من حال إلى حال
قالت هند بنت النعمان : لقد رأيتنا , و نحن من أعز الناس , و أشدهم ملكا , ثم لم تغب الشمس , حتى رايتنا و نحن أذل الناس , و إنه حق على الله عز و جل أن لا يملاء داراً حبرة إلا ملأها عبرة , و سألها رجل أن تحدثه عن أمرها , فقالت : أصبحنا ذات صباح ما في العرب أحد إلا يرجونا , ثم أمسينا و ما في العرب أحد إلا يرحمنا .
فاصبر على قضاء الله وقدره ففي فوائد عظام :
ففي الصبر ضبط للنفس عن السأم و الملل , و فيه ضبط للنفس عن العجلة و الرعونة , و فيه ضبط للنفس عن الغضب و الطيش , و فيه ضبط للنفس عن الاندفاع وراء أهوائها , فيه دليل على كمال الإيمان , الصبر يورث هداية في القلب , و محبةَ الله و محبة الناس , هو سبب للتمكين في الأرض , هو سبب للفوز بالجنة , به الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة .
الصابر يحظى بمعية الله , الصابر عليه صلاة الله ورحمته و بركاته .
اللهم اجعلنا من الصابرين , و بمر القضاء راضين , و على اللأواء بك مستعينين , و عليك في جميع أمورنا متوكلين .
هذا و صلوا على من أمركم الله بالصلاة و السلام عليه , فصلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم تسليما مزيدا إلى يوم الدين
اللهم اعز الاسلام و المسلمين , و أذل الشرك و المشركين .
اللهم أغثنا , غيثا مغيثا , هنيئا مريئا , غدقا مجللا , نافعا غير ضار , تغيث به العباد و تحيي به البلاد برحمتك يا رب العباد عباد الله إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون , فاذكر الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون