×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

الزهــــد

التحرير
بواسطة : التحرير
الزهد
الجمعة 22/7/1429هـ


الحمد لله المحمود بكل لسان , المعبود في كل زمان , و سع كل شيء رحمة و علماً , عرف أولياءه غوائل الدنيا و آفاتها , و كشف لهم عن عيوبها و عوراتها , أحمده على عطائه , و أستزيده من أنعمه و آلائه , و الصلاة والسلام على رسوله الذي زهد في الدنيا و مباهجها , و أعرض عن زخارفها و مناعمها , و اختار أن يجوع يوماً فيفوز بفضل الصبر , و يشبع يوماً , فيبلغ درجة الشكر , و على آله و أصحابه الذين تمكنوا من طيبات الأرض فعافوها , و من تبعهم و سار نهجهم إلى يوم الدين .
أما بعـــــــد
فاتقوا الله أيها المؤمنون , فإليه وحده ترجعون , و عن دنياكم مسؤولون ,

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }الأنعام94
عباد الله
في السنة الثامنة من الهجرة رسم لنا المصطفى (ص) نهجاً واضحاً في هذه الحياة الدنيا , ففي غزوة حنين , كثرة المغانم , فكان السبي ستة آلاف رأس , و الإبل أرابعة و عشرون ألفاً , و الغنم أكثر من أربعين ألف شاة , و أربعة آلاف أوقية فضة , و يمكث (ص) بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم , و يتأنى بها , يبتغي أن يقدم عليه و فد هوازن تائبين , ( و هوازن هم العدو في غزوة حنين ) , يبتغي أن يتوبوا و يؤمنوا ليعيد لهم ما أخذ منهم , لأن الدنيا لا تساوي عنده شيئا , و لكن لم يجئه أحد , فبدأ بقسمة المال , و أكثر في عطاء المؤلفة قلوبهم , فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية و مائة من الإبل فقال : ابني يزيد ؟ فأعطاه مثلها , فقال : ابني معاوية ؟ فأعطاه مثلها , و أعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل , فسأله مثلها فأعطاه , و أعطى صفوان بن أمية مثلها , و أعطى آخرين كذلك حتى شاع بين الناس أن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفقر , فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال , حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه فقال : أيها الناس ردوا علي ردائي ,
فو الذي نفسي بيده , لو كان عندي شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم , ثم ما ألفيتموني بخيلاً و لا جباناً و لا كذابا .

ثم قام إلى جانب بعيره وأخذ من سنامه و برة , فجعلها في يده , ثم رفعها , فقال : أيها الناس , و الله مالي من فيئكم , و لا هذه الوبرة إلا الخمس و الخمس مردود عليكم ,
و كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة , فإن في الدنيا أقواما يقادون إلى الحق بالمال و المنصب و الجاه , و هذه السياسة لم تفهم أول الأمر , فاعترض أناس .
فالأنصار لم يكن لهم منها شيء فوجدوا في أنفسهم , فدخل سعد بن عبادة على رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت , قسمت في قومك , و أعطيت عطايا في قبائل العرب , و لم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء , قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : يا رسول الله ما أنا إلا من قومي , قال : فاجمع لي قومك في هذه الحضيرة , فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحضيرة , فأتاهم رسول الله (ص) , فحمد الله , و أثنى عليه , ثم قال : يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم , وجدة وجدتموها علي في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ؟ و عالة فأغناكم الله ؟ و أعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى , الله و رسوله أمن و أفضل .
ثم قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله و لرسوله المن و الفضل , قال : أما و الله لو شئتم لقلتم , فلصدقتم
و لصدقتم : أتيتنا مكذباً فصدقناك , و مخذولاً فنصرناك , و طريداً فآويناك

و عائلاًَ فآسيناك .
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا , و وكلتكم إلى إسلامكم , ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة و البعير , و ترجعوا برسول الله (ص) إلى رحالكم ؟ فو الذي نفس محمد بيده , لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار , و لو سلك الناس شعباً , و سلكت الأنصار شعبا , لسلكت شعب الأنصار , اللهم ارحم الأنصار , و أبناء الأنصار , و أبناء أبناء الأنصار .فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم , و قالوا : رضينا برسول الله (ص) قسما
و حظا , ثم انصرف رسول الله (ص) , و تفرقوا .
قال الشافعي رحمه الله في ذم الدنيا
و ما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها و إن تجتذبها نازعتك كلابها
عباد الله
ما أحوجنا والله في هذا الزمن أن نعرف الدنيا على حقيقتها , في زمن أصبح هم الكثير من الناس جمع المال , من أجل جمع المال , فترى بعضهم يجمع المال طيلة حياته , فإذا فارق الدنيا و رحل عنها , قيل : إن فلان بن فلان خلف من الأموال كذا و كذا , و لو رايته في حياته لرحمة حاله .
أليس لنا في رسول الله (ص) أسوة حسنة , فهو قدوتنا , و هو قائدنا , و هو حبيبنا و مرشدونا .

تقول عائشة رضي الله عنها : لقد مات رسول الله (ص) و ما شبع من خبز
و زيت في يوم واحد مرتين .
و قالت : ما شبع رسول الله (ص) ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى لسبيله.
و قالت لعروة بن الزبير : ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثةُ أهلةٍ في شهرين , و ما أوقدت في أبيات رسول الله (ص) نار , قال : فقلت : ما كان يُعِيشُكُمْ ؟ قالت : الأسودان التمر و الماء .
هذا هو حال رسول الله (ص) و لو أراد أن تسير معه الجبال ذهباً لكان , و لكنه آثر الأخرى على الأولى , و الباقية على الفانية , كان يقول لأصحابه صلوات الله و سلامه عليه : و الله ما الفقرَ أخشى عليكم , و لكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم , فتنافسوها كما تنافسوها , و تلهيكم كما ألهتهم .

رغيف خبز يابسٌ تأكله في زاوية
و كوز ماءٍ باردٍ تشربه من صافيه
و غرفةٌ ضيقةٌ نفسك فيها خالية
أو مسجدٌ بمعزلٍ عن الورى في ناحية
معتبراً بمن مضى من القرون الخالية
خير من الساعات في فيء القصور العالية

قال ابن القيم : على قدر رغبة العبد في الدنيا و رضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الها و طلب الآخرة .
قال الحسن البصري رحمه الله و الله لقد رأيت أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه , و لقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم و لا يجد عنده إلا قوتا , فيقول : لا أجعل هذا كله في بطني , فيتصدق ببعضه , و لعله أحوج إليه ممن يتصدق عليه .
قال جابر بن عبد الله (ص) مر رسول الله (ص) بالسوق داخلاً من بعض العالية , و الناسُ كَنَفَتَهُ , فمر بجدي أسكَّ ميتٍ فتناوله فأخذه بأذنه , ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم ؟ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيء , و ما نصنع به ؟ قال : أتحبون أنه لكم ؟ قالوا : و الله لو كان حياً كانَ عيباً فيه لأنه أسك , فكيف و هو ميت ؟ فقال : فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم .
يا لها من دنيا فانية ! كم سلبت من أوقاتنا ؟ و كم ضيعت من أعمارنا ؟
عبد الله
كم مضى من عمرك في هذه الدنيا ؟ كم لقيت من أفراحها ؟ و كم نالك من أتراحها ؟ كم هم أولائك الذين عرفتهم ؟ فأين هم ؟ ألم يذهب الأحباب ؟ ألم يتفرق الأصحاب ؟ هل وقفت يا أخي في يوم ماء مع نفسك وقفة صافية ؟ تذكرت فيها حالك , و سألت فيها عن مآلك ؟ هل سالت نفسك عن المال الذي بين يديك ؟ أهو من حلال أم حرام ؟ أأنفقته في حلال أم حرام ؟
أعلمت أن حبيبك (ص) قال : اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }يونس24
أقول ما سمعتم و استغفر الله لي و لكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وارجوه إنه هو الغفور الرحيم .



الخطبة الثانية


الحمد لله على إحسانه , و الشكر له على توفيقه و امتنانه , و أشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه , و أشهد أن محمدا عبد الله و رسوله الداعي إلى رضوانه , عليه و على آله و أتباعه و إخوانه أتم الصلاة و أكمل التسليم .
أما بعـــــد
فيا عباد الله
إن جمع المال و اكتسابه , و التنعم بما أحله الله لعباده في هذه الحياة دون إسراف أو مجاوزة , لا ينافي الزهد , فإن الإنسان لابد له مما يصلح شأنه ,
و يقيم حياته في غنى عن الناس , و لا يتم ذلك إلا بالأخذ من الدنيا بقدر يصونُ به عرضهُ , و يحمي به نفسه , {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا

تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }القصص77
قال الحسن بن علي رضي الله عنهما - : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال و إضاعة المال , و لكن أن تكونَ بما في يد الله أوثقَ منك بما في يدك , و أن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها , أرغبَ منك فيها لو لم تصبك .
و قال سفيان الثوري رحمه الله - : الزهد في الدنيا قِصَرُ الأمل , ليس بأكل الغليظ , و لا بلبس العباء , و لقد كان من دعاء السلف : اللهم زهدنا في الدنيا , و وسع علينا منها , و لا ترُدَّ عنا فترغبنا فيها .
فاتقوا الله عباد الله , و انظروا إلى الدنيا نظر الزاهد فيها , المفارق لها ,
و اغتنموا غفوة الزمان , و فرصة الإمكان , و تزودا من يومكم لغدكم ,
و لا تكونوا ممن يقول في الدنيا بقول الزاهدين , و يعمل فيها بعمل الراغبين ,
عن الضحاك بن مزاحم (ص) قال : جاء رجل إلى النبي (ص) فقال : يا رسول الله , من أزهدُ الناس ؟ فقال (ص) : من لم ينس القبر والبلى , و ترك أفضلَ زِينَةِ الدنيا , و آثر ما يبقى على ما يفنى , و لم يعدَّ غداً من أيامه , و عدَّ نفسه من الموتى .{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى }طه131هذا و صلوا و سلموا..... اللهم أعز الإسلام و المسلمين .. اللهم اغثنا ...ربنا آتنا ... سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
بواسطة : التحرير
 0  0  2539