×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

الأزمة المالية

التحرير
بواسطة : التحرير
الأزمة المالية
الجمعة 17/10/1429هـ


الحمد لله العليم الحكيم؛ أباح لعباده الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، وأمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم , نحمده على شريعته التي شرعها لنا، وعلمنا إياها، وهدانا إليها، ونشكره على رزقه الوافر، وعطائه الواسع، فهو سبحانه مسدي النعم ومتممها، وشكره يزيدها، وكفره يزيلها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يكفره الناس فيمهلهم، وإذا أخذهم لم يفلتهم وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم -عباد الله- واستمسكوا بدينكم؛ فإنه الخير والرشاد في الحال والمآل [فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ] {الزُّخرف:44}.
أيها المسلمون
يا من رضيتم بالله ربا , و بالاسلام دينا , و بمحمد (ص) رسولا و نبيا
تأملوا في تدابير الخالق العليم {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }الرحمن29
فهو الذي يغفر الذنوب و يفرج الكروب , يرفع أقواماً و يضع آخرين , يذل من يشاء , و يعز من يشاء , إنه الله الواحد الأحد , الفرد الصمد , رب السموات و الأرض , رب العرش العظيم , هو الأول فليس قبله شيء , و هو الآخر فليس بعده شيء , و هو الظاهر فليس فوقه شيء , و هو الباطن فليس دونه شيء .
أحق من ذكر , و أحق من عبد , و أحق من حمد , هو الملك فلا شريك له , و الفرد فلا ند له , كل شيء هالك إلا وجهه , و كل ملك زائل إلا ملكه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }يس82
لا راد لقضائه و لا معقب لحكمه , و لا مانع لما أعطى , و لا معي لما منع , يوتي الملك من يشاء , و ينزعه ممن يشاء , {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }آل عمران26
العزة له و الجبروت له , و العظمة له و الكبرياء له , ما أعظم شأنه , ما أفخر ملكه , ما أعلى مكانه .
مهما كتبنا في علاك قصائداً بالدمع خطت أو دم الأجفان
فلانت أعظمُ من مديحي كُله و أجل مما دار في الحسبان
في حبك يا ألله عذب بلال بن رباح , و في سبيلك هانت الأرواح و الجراح , قطعت يد جعفر و تجندل في التراب و تعفر , لإعلاء كلمة الله , أحبك حنضلة , فترك عرسه , و أهدى في سبيلك رأسه , أحبك سعد بن معاذ , فاستعذب فيك البلاء , و جرت منه الدماء , و شيعته الملائكة و اهتز له عرش السماء .
عباد الله
لقد بلغ من خوف المصطفى (ص) من العظيم الجبار مبلغه , و هو إمام المتقين , و صفوة العالمين , ما قارف خطيئة , و ما تلطخ بمعصية , كان لشدة خوفه (ص) , يكاد قلبه يطير فزعا , يتغير وجهه حزنا لأي تغير يطرأ في الجو , أو عارض يعرض في الأفق , إذا هبت العواصف خاف و لجأ إلى ربه , إذا انعقد الغمام خاف , فإذا رأى غيمة أو ريحا عرف ذك في وجهه , قالت عائشة رضي الله عنها أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر , و أراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية , فقال : يا عائشة , و ما يؤمنني أن يكون فيها عذاب و عذب قوم بالريح , و قد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا .
يبيت يجافي جنبه عن فراشــه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنـا بــه موقنات أن ما قال واقع
عن ابن مسعود (رضي الله عنه) ذكر حديثا عن النبي (ص) قال فيه : ما ظهر في قوم الزنا و الربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله .
أيها المسلمون
ما زالت آيات الله تترى علينا آية تلو آية , فهل من مدكر و هل من معتبر , فها هي الأزمة المالية التي يمر بها العالم اليوم , فيها من الآيات و العبر , ما يتذكر فيها من تذكر .
ألم يقل الله جل في علاه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ }البقرة279
فمن يقوى على حرب العظيم , الذي { إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }آل عمران47
يا الله , حرب من الله و رسوله , حرب رهيبة معروفة المصير , مقررة العاقبة , فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة , إنها حرب معلنة في صورتها الشاملة , حرب على الأعصاب و القلوب , حرب على البركة و الرخاء , حرب على السعادة و الطمأنينة ,
إنها حرب أعلنها الله على المتعاملين بالربا , حرب تأكل الأخضر و اليابس , إنها حرب تسقط فيها أنظمة , تكثر فيها إفلاسات و اضطرابات , خسائر و بطالات .
المسالة كبيرة جدا { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ }آل عمران13
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }البقرة248
فها هو أقوى نظام مالي في العالم يستنجد و يستصرخ , يطلب البنوك القروض , ويسالهم الإعانات {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }التوبة109
إن المولى جل في علاه حرم الربا و حرم الظلم و حرم الاحتكار
و هو جل و علا إذا حرم شيئا فهو ضرر محض , فلا يوجد شيء ينفع الناس يحرمه الله عليهم , فهو كريم حليم بعباده رحيم .
عباد الله
الأزمة رهيبة و عظيمة , فسيعلن الكثير إفلاسهم , لأن الله قال {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا}البقرة276
لقد أطلقت النظرية الرأسمالية للأفراد حرية التملك، وتنمية المال بأي وجه، وكان فيها من مقومات التوحش والتسلط ما سمح للأقوياء أن يسحقوا الضعفاء، وللأغنياء أن يبيدوا الفقراء، بمسوغات السوق الحر، والتجارة الحرة .
ولكنْ توالت الانتكاسات الرأسمالية سياسيا في القرارات المصيرية الخاطئة، وعسكريا في الغزو غير المدروس، واقتصاديا في انهيارات البنوك والشركات وبورصات الأسهم والعملات.
فسبحان من جعل القوة سببا لضعف الأقوياء، وسبحان من جعل الضعف قوةً للضعفاء، وإلا فإن أكثر الناس قبل سُنَيَّاتٍ قلائل ظنوا أن لا قوة تغلبهم وقد رأوا أساطيلهم تغطي البحار، وطائراتهم العملاقة تحلق في السماء، وأيقنوا أن لا شيء يهز اقتصادهم، وقد بلغت صناعاتهم ما بلغت، وخيرات باطن الأرض تتدفق عليهم من كل مكان، وأعلنوا أن القرن قرنهم، وأن العالم كله مسخر لهم، وأن الدول تحت أيديهم وتصرفهم [وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ الله فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا] {الحشر:2} [وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {يونس:24}
يا للعجب يا عباد الله، ما أقدر الخالق على الخلق، وما أضعف الخلق أمام قدرة الخالق سبحانه، وما أعجب تدابير الرب في عباده [إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ] {يوسف:100}
لو جاءهم البلاء من قارعة سماوية، أو عاصفة بحرية، أو ريح عاتية لقال الناس: عذابا كعذاب الأمم المكذبة قبلهم.
ولو ضُربوا بفعل البشر لقيل: إنهم أُخذوا على حين غرة، وانتقامُهم سيكون شديدا أليما، أو هي خدعة سياسية يبتزون العالم بها، ويسوغون تدخلاتهم في الدول.
ولكن البلاء جاءهم من نظريتهم الرأسمالية التي حاربوا عليها الاشتراكية سبعين سنة .
لقد جاءهم البلاء من نظريتهم التي زعموا أن نهاية التاريخ كانت عندها، ولم يكتمل عقد واحد من القرن الذي زعموا أنه قرنهم حتى بدت بوادر سقوط النظرية وفنائها، ولا يدرون كيف كان ذلك، ولا أسبابه، ولا آثاره الحقيقية، ولا نتائجه الأكيدة [وَلله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا] {النساء:126}
[وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] {الفتح:7} [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ] {المدَّثر:31} .
حمى الله بلادنا وبلاد المسلمين من الكوارث والقوارع والمثلات، وهدانا للتمسك بدينه، وإقامة شرعه في شئوننا كلها، كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها، إنه سميع مجيب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله...



الخطبة الثانية

الحمد لله العزيز الجبار، القوي القهار؛ لا يَذِلُّ من والاه، ولا يَعِزُّ من عاده، نحمده كما ينبغي له أن يحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يرد أمره، ولا يهزم جنده، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أمرنا ونهانا وبشرنا وأنذرنا، وتركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا غضبه فلا تعصوه [وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ] {المائدة:92}
أيها المسلمون: يكثر الكلام في هذه الأيام عن التداعيات الاقتصادية المتوقعة لانهيارات عدد من البنوك والشركات الكبرى في الدولة الرأسمالية الأولى، وآثارها على الدول الأخرى، وأعداءُ الرأسمالية يبشرون بسقوطها وتفكك دولها كما سقطت الاشتراكية وتفككت دولها، والرأسماليون وأتباعهم يزعمون أنها هزة سيتجاوزها الفكر الرأسمالي، ويعود أقوى مما كان.
هذا؛ وكل ما يجري من توقعات وتخمينات في هذه الانهيار المالي المفاجئ قائم على حسابات بشرية لا تعلم الغيب، ولم يكن يتوقعه أحد، ولا يدرون ما أسبابه! ولا كيف كان؟! فأنى لهم إدراك آثاره ونتائجه؟!
ولكن الثابت القطعي -يا عباد الله- هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل يملي لِلظَّالِمِ فإذا أَخَذَهُ لم يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» متفق عليه. والربا من أعظم الظلم الذي يستحق صاحبه العقوبة عليه، فكيف وبناء الاقتصاد الرأسمالي إنما هو عليه؟!
والحقيقة الثابتة أن الربا ممحوق هو وأهله، فإنه وإن امتلأت به خزائن المرابين ذهبا ومالا، وازدهرت دولهم، وقويت حضارتهم فلا بد أن يلحقهم محقه من حيث احتسبوا أو من حيث لم يحتسبوا وهو ما وقع في أزمتهم الحالية [يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] {البقرة:276} وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا:«الرِّبَا وان كَثُرَ فإن عَاقِبَتَهُ إلى قُلٍّ»رواه أحمد.
والثابت أيضا أن أهل الربا أفرادا كانوا أم دولا أم أمما قد أعلنوا الحرب على الله ورسوله، ومن له طاقة أن يحارب الله تعالى وهو سبحانه يملك السماء والأرض وما بينهما، وهو على كل شيء قدير، وهو شديد العقاب، وشديد المحال، وأخذه أليم شديد .
ألا فلنعتبر يا عباد الله بما أصاب غيرنا لئلا يصيبنا، ولنجانب أسبابه، ولنحذر غضب الله عز وجل فليس لنا ولا لغيرنا مهما كانوا طاقة على حربه عز وجل. ولنعلم أن كسب رضاه سبحانه، واستجلاب خيره لا يكون إلا بالتمسك بدينه وإن خالفنا عليه أهل الأرض كلهم؛ فإن القوة لله جميعا، وأن فُجَاءَة نقمته، وتحول عافيته، وحلول سخطه يكون بانتهاك حرماته، وتعطيل أوامره، ومعاداة أوليائه. [إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ * ذُو العَرْشِ المَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ] {البروج:12-16}.
وصلوا وسلموا على نبيكم....
بواسطة : التحرير
 0  0  2425