×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

أفلا آذنتموني

التحرير
بواسطة : التحرير
أفلا آذنتموني



الحمدُ للهِ , خلقَ الخلقَ بقدرتهِ , و قضى فيهم بعدلهِ و حكمتهِ ,
و أحاطهم بعنايتهِ و رحمتهِ , أحمدهُ و أشكرهُ , و أتوبُ إليهِ وأستغفرهُ , و اشهدُ أن لا إله إلا اللهُ و حدهُ لا شريكَ لهُ , لا يخرجُ شيءٌ عن أمرهِ , و لا يستعصي أمرٌ على قدرتهِ .
و اشهد أن نبينا محمداً عبدُ اللهِ و رسولهُ , عرفَ اللهَ تعالى حقَ المعرفةِ , فعظمهُ و خشيهُ و اتقاهُ , فكان اتقى الخلقِ للهِ تعالى , و أكثرهم خضوعاً و إجلالاً لعظمتهِ تبارك و تعالى . صلى اللهُ و سلمَ و باركَ عليهِ و على آلهِ و أصحابهِ و التابعينَ لهم بإحسانٍ على يومِ الدين .
أما بعد
فأوصيكم أيها الناسُ و نفسي بتقوى اللهِ تعالى , فاتقوهُ حقَ التقوى واستمسكوا بالعروةِ الوثقى .
أيها المؤمنون
كان الداخل إلى مسجد رسول الله (ص) يرى في ناحيته حجرة صغيرة , متقاربة الجدر, منخفض سقفها , بنيت لتسع شخصا واحد ؛ ولا تتسع معه لأحد , وكان ذلك المسكن لامرأة سوداء ليس لها مأوى غيره , وكانت هذه المرأة تكثر الذهاب إلى بيت النبي (ص) لتستأنس بالحديث مع عائشة رضي الله عنها فإذا فرغت من حديثها أنشدت بيتا من الشعر تشدوا به في كل مجلس من مجالسها :
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أجاني
فعجبت عائشة رضي الله عنها من كثرة إنشاد هذا البيت , فقالت لها : ما شأنك ؟ لا تقعدين معي مقعدا غلا قلت هذا ؟
فقصت المرأة قصتها وحكت خبرها .
فقد كانت المرأة أمة لحي من أحياء العرب في مكة , فأعتقوها فبقيت معهم بعد عتقها , شأن كثير من المماليك الذين لا يستطيعون بعد العتق حيلة ولا يهتدون سبيلا , وفي يوم من أيامها عندهم ؛ خرجت صبية لهم كانت عروساً قد اتشحت بوشاح أحمر من جلد , فدخلت إلى مغتسلها لتغتسل , ووضعت وشاحها عند المغتسل فمرة به حدأة , وهو ملقى فحسبته لحما , فانحطت عليه فاختطفته , فلما خرجت الصبية لم تجد وشاحها فصاحت بأهلها , فبحثوا عنه فلم يجدوه , فاتهموا به أمتهم السوداء , فعذبوها وطفقوا يفتشونها ويجردونها , بظلم وقسوة , بغير بينة ولا دليل , وكانت ساعة كرب وشدة , أحست فيها بالمهانة و الظلم , وضاقت بها الحيل , فليست ذات نسب تعتزي بنسبها , ولا ذات قرابة تستنصر قرابتها , وليس بها قوة فتدفع عن نفسها .
فلم تجد نصيرا تستنصره , ومغيثا تستغيث به إلا ربها الذي خلقها , ونسيت آلهة قومها وأصنامهم , وتوجهت إلى الله تعالى بأشد ما يكون الاضطرار , تدعوه بإلحاح أن يظهر براءتها ويخلصها من كربها , فأجابها الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء , أجابها وهي على شركها وكفرها , وجاء الفرج بأسرع مما أملت .
فإذا الحدأة التي خطفت الوشاح , قد أقبلت به بأمر من الله , وهم لا يزالون قياما حولها , وهي في كربها , وهم ينظرون إلى الحدأة حتى وازت برؤوسهم , ثم ألقت به بينهم , فأخذوه فإذا هو وشاح ابنتهم , فنفس الكرب وظهرت البراءة , وقالت لهم بمقال صاحب الحق : هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة , ثم تركتهم وظلمهم , وهاجرت إلى رسول الله (ص) , فأسلمت , وكانت عنده , سكنها في مسجده , وحديثها وانسها في بيته , وهناك وجدت السكينة والهداية , فقد كان بيت رسول الله (ص) مأواها ومستراح نفسها .
ولعلها هي التي نذرت نفسها لخدمة المسجد , فكانت تقم المسجد , وتلتقط منه الخرق والعيدان والقذى , ثم فقدها رسول الله (ص) فسأل عنها , قالوا : ماتت يا رسول الله , فقال : أفلا كنتم آذنتموني ؟ قالوا : يا رسول الله , ماتت من الليل فكرهنا أن نوقظك ! فقال عليه الصلاة والسلام : دلوني على قبرها , فلما أتى قبرها صلى عليها , ودعا لها ثم قال : إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها , وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم .
عباد الله
لنا مع هذا الخبر وقفات
- فهذه المحنة كانت سببا لتعود هذه المرأة إلى ربها , وتتوب من غفلتها وإعراضها , لقد عاشت الم الكرب وذاقت مرارة الظلم وبهتت وبغي عليها , ولم تجد من يبرئها , أو يدفع عنها , وعلمت يقينا أن لا ملجأ من الله إلا إليه , فتوجهت إلى الله تعالى تشكو إليه ضرها , وتنزل به حاجاتها , فأجابها الذي يجيب المضطر , ويرفع دعوة المظلوم , ورأت كيف كان الفرج ببراءة ظاهرة قامت على رؤوس قومها وهم ينظرون , فهاجرت إلى حيث لا يعبد إلا الله وحده ؛ بعدما علمت أنه لا يكشف الضر إلا الله .
وأنت يا عبد الله
إذا ابتليت فإلى من تلجأ , وبمن تعتصم , وإذا نجاك المولى وأسبغ عليك , فهل تواصل السير إليه , أم تنكص على عقيبيك .
- كانت هذه المرأة تعيش نشوة الإحساس بفضل الله عز وجل عليها بطيب المنقلب , فإنها لما هاجرت إلى النبي (ص) تذوقت نعيم الهداية بعد الضلال , وعز الكرامة بعد الإذلال , ووجدت نفسها بعد أن كانت عرضة للتهم والبغي والاستضعاف أصبحت تعيش بين المسلمين موفورة الكرامة , مصونة الحقوق , تحس بإخوة الايمان بين المؤمنين , وزاد هذا الإحساس حين كانت تجد نفسها في أكرم البيوت وأشرفها .
فكيف يعامل الناس من يخدمهم , فضلا عن ضعفة المسلمين , هل يظلمون , أم يجدون حقوقهم , إن البيوت تخفي تحت أسقفها وبين جدرانها ما لا يعلمه إلا الله , فليتق الله من ولي أمرهم , فكما أجاب الله دعوة المظلومة وهي على شركها وكفرها , فدعوات من ظُلم من المؤمنين أقرب , واستجابته له أسرع .
عباد الله
- لقد رأيتم كيف كان بيت رسول الله (ص) مأوى للمسلمين وبخاصة فقراؤهم وضعفاؤهم , وكانت حجرته الصغيرة تنفسح للضعفاء , فقد كانت هذه المرأة تأوي إلى عائشة رضي الله عنها - في حجرتها , لم تكن تذهب لتأكل أو تشرب , ولكن لتستأنس بالمحادثة , ولتجد في بيت النبوة ما يزيل عنها وحشة الغربة , ويمسح عن نفسها ما أمضها من ألم .
إن عائشة رضي الله عنها كانت تتعامل مع هذه المرأة بالخلق النبوي الكريم , الذي يسع الناس كلهم .
فما أجمل أن نتخلق بهذا الخلق الكريم , فنراجع أنفسنا في تعاملنا مع الفقراء , وطريقتنا مع الأيتام والمساكين , لربما كان ذلك المحتاج ؛ يحتاج المال فعلا , ولكن حاجته إلى الخلق الكريم أشد , فكم من عفيف نفس ؛ منعته عزته ؛ وكرامته من السؤال , فهل يجد فينا من يطيب له المقال , ولنعلم يا عباد الله أن هذه الدنيا لا يدوم لها حال, ولا يستقر لها قرار , فهذا الغني لربما كان بالغد فقيرا , وذاك الفقير لربما كان في المستقبل في عداد الموسرين , فعامل الناس بما يرضي الله , وبما تحب أن يعاملوك به لو كنت مكانهم .
عبد الله
- إن تلك المرأة لما هاجرت إلى النبي (ص) وسكنت في مسجده لم تجعل نفسها عبئاً على المسلمين , وإنما بحثت عن دور تقوم به عمل تشارك فيه , وكانت خلفيته المهنية تؤهلها للدور الذي اختارته وهو خدمة المسجد النبوي , وبذلك صار لها دور ايجابي , يحسه كلُّ الذين يغشون مسجد رسول الله (ص) .
إن هذه المرأة قامت بما يجب عليها لخدمة هذا الدين , بينما يعجز الكثير , عن تقديم ما يخدم دينهم , وهم يستطيعون , ويملكون , وأصبحت خدمة الدين عند الكثير مقصورة على شريحة معينة ؛ لأنهم ظهرت عليهم علامات الصلاح , ولكن الحق الذي لا مرية فيه , أن كل مسلم عليه حق وواجب في نصرة دين الله , بما يستطيع , ولو فتش الإنسان في نفسه , وبحث في قدراته لوجد طاقات معطلة , وإمكانات مهمشة , فلننصر دين الله بكل ما نستطيع , ولنبذل له ما في وسعنا .
عباد الله
ليكن لنا في رسول الله (ص) قدوة حسنة , فقد اهتم بالناس اهتماما واسعا , حتى إن أغمارهم ومن لا يؤبه بهم يجد مكانه ومكانته في نفس انبي الكريم عليه الصلاة والسلام , فها هو صلوات ربي وسلامه عليه يتفقد تلك المرأة السوداء حين فقدها , ويسأل عنها في غيبتها , ويعتب على أصحابه أنهم لم يؤذنوه بموتها , ثم يذهب إلى قبرها فيصلي عليها ويدعو الله أن ينوِّر ظلمة هذه القبور على أهلها .
لقد تعاهد عليه الصلاة والسلام امرأة ماتت لا يرجى منها شيء , وكانت غريبة فلا أقارب لها يتقرب إليهم بذكرها , ولكنه خلق النبوة الذي وسعها في حياتها , ثم تبعها بعد مماتها , وأوقفه على قبرها مصليا وداعيا .
فرضي الله عن خادمة مسجد رسول الله (ص) وأرضاها , وصلوات الله وسلامه وبركاته على من بعث متمما لمكارم الأخلاق فأتمها .




الخطبة الثاني


الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده ونشكره ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).
أيها المسلمون: أرسل الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ رحمة للعالمين، وهداية للناس أجمعين، فكان من قبول رحمة الله تعالى: الإيمانُ به عليه الصلاة والسلام، وقبول شريعته، والتزام سنته. كماكان تكذيبه أو رفض شريعته رفضا لرحمة الله تعالى.
ولذا كان أسعد الناس برحمة الله تعالى يوم القيامة هم من قبلوا رحمته في الدنيا، فاتبعوا رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام، وكان أبعد الناس عن رحمة الله تعالى في الدار الآخرة هم من لم يقبلوا رحمته في الدنيا، فلم يتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكن ممن قبل رحمة الله في الدنيا و اتبع رسوله , لتنل رحمته في الآخرة , و احذر أن تبعد عن رحمة الله في الدنيا بمعصية رسوله , فتنل غضبه في الآخرة .
هذا و صلوا و سلموا..... اللهم أعز الإسلام و المسلمين .. اللهم اغثنا ...ربنا آتنا ...
اللهم وفق ولي أمرنا .... اللهم أرنا الحق حقا ........
عباد الله إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون , و أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم , و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها فقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون فاذكر الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم
و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون .
بواسطة : التحرير
 0  0  2639