احفظ الله يحفظك
احفظ الله يحفظك
الجمعة 16/ 3/1430ه
ـالحمد لله العلي الأعلى؛أحمده على ما وفق وهدى، وأشكره على ما أعطى وأسدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]{الحجرات:17} .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى، فاتقوه حق التقوى، واتبعوا ما أنزل من الهدى، [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:31}.
عباد الله
ليس شيء أجمل من انتقاء الكلام من الكتاب و السنة , فلا فصاحة كفصاحتها , و لا بلاغة كبلاغتها . فتعالوا لنقف مع حديث عظيم , من كلام سيد المرسلين صلوات الله و سلامه عليه .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما - قال كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف . قال الألباني حديث حسن صحيح .
قال ابن رجب :هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة , و قواعد كلية من أهم أمور الدين , حتى قال بعض العلماء : تدبرت هذا الحديث فأدهشني و كدت أطيش , فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث و قلة التفهم لمعناه .
احفظ الله يحفظك , احفظ أوامره و نواهيه , و حدوده و حقوقه ,
و يكون الحفظ بامتثال أوامره و أوامر رسوله (ص) , و الابتعاد عن نواهيهما , فمن قام بذلك مدحه الله في كتابه {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ }سورة ق .قال ابن عباس في تفسير ( حفيظ ) هو الحافظ لأمر الله .
و يكون حفظ الله للعبد في الدنيا بحفظ مصالحه الدنيوية و حفظ بدنه
و ولده و أهله و ماله , قال تعالى { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً }الكهف82
قال الحافظ بن كثير : فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته , و تشمل بركة عبادته لهم في الدنيا و الآخرة , بشفاعته فيهم و رفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم .
قال بن المسيب لابنه لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك , ثم تلا الآية { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً }الكهف82
و يكون الحفظ للعبد بحفظ دينه و إيمانه من الشبهات المضلة , و الشهوات المحرمة , حتى يلقى الله و هو على دين و خلق كما يحب ربنا ويرضى , لذلك كان من دعاء المصطفى (ص) عند نومه :إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين .
و حفظ الله يوسف عليه السلام و صرف عنه الفتن المضلة و الشهوات المحرمة { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ }يوسف24
و قال عليه الصلاة و السلام : احفظ لله تجده تجاهك . من حفظ أوامر الله في نفسه و أهله , و استقام وفق الكتاب و السنة , كان الله معه في أحواله كلها , يحوط بعنايته و نصره و توفيقه {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }النحل128 و قال مخبرا عن موسى و هارون
{ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }طه46و قال عليه الصلاة و السلام لأبي بكر في الغار : ما ظنك باثنين الله ثالثهما .
عباد الله
إذا سألتم فاسألوا الله , فإليه ترد الحاجات , و ترفع الشكايات , يسمع أنين الآنين , و تضرع المتضرعين .
و إذا استعنتم فاستعينوا بالله , فنحن فقراء و الله هو الغني , العجز من صفاتنا , و الله لايعجزه شيء في الأرض و لا في السماء , من أعانه الله فهو المعان الموفق , و من خذله الله و تخلى عنه فهو الخاسر المفلس .
و قال عليه الصلاة و السلام : واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف .
في هذا المقطع يدور كلام المصطفى (ص) حول قضية من قضايا القضاء و القدر , فيجب على العبد الإيمان بذلك , فالله جل جلاله علم علماً شاملاً و دقيقا لم يسبقه جهل بما سيكسب العبد من الخير و الشر , و كتب ذلك , قال عليه الصلاة و السلام : إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات و الأرض بخمسين ألف سنة . رواه مسلم .
و قال (ص) : إن أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة . فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا , لو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعونا بشيء لم يفعونا إلا بشيء قد كتبه الله لنا , و لو اجتمعوا على أن يضرونا بشيء لم يضرونا إلا بشيء قد كتبه الله علينا . {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }التوبة51 { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ }آل عمران154
لذلك قال عليه الصلاة و السلام : رفعت الأقلام و جفت الصحف . قال ابن رجب : هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها و الفراغ منها من أمد بعيد فإن الكتاب إذا فرغ من كتابته و رفعت الأقلام عنه و طال عهده فقد رفعت عنه الأقلام و جفت الأقلام التي كتب بها من مدادها , و جفت الصحف التي كتب فيها بالمداد المكتوب فيها , و هذا من أحسن الكنايات و أبلغها .
عباد الله
تعرفوا إلى ربكم في الرخاء يعرفكم في الشدة .
لقد عرف محمد (ص) ربه في الرخاء فعرفه في الشدة , عرفه في الغار ,
و عرفه يوم بدر , و عرفه يوم الأحزاب ؛ يوم اجتمعت عليه دول الكفر ,
و تآلبت عليه جموع الضلال , فنصره الكبير المتعال , يوم عرفوا ربهم في الرخاء كان معهم ناصراً و معيناً في الشدائد .
هذا يونس بن متّى نبي الله يسقط في لجج البحار فيبتلعه الحوت فهو في ظلمة جوف الحوت في ظلمة جوف البحر في ظلمة الليل, في ظلمات ثلاث, فلا أحد يعلم مكانه, ولا أحد يسمع نداءه, ولكن يسمع نداءه من لا يخفى عليه الكلام, ويعلم مكانه من لا يغيب عنه مكان, فدعا وقال وهو على هذه الحال: { لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }الأنبياء87, فسمعت الملائكة دعائه, فقالت: صوت معروف في أرض غريبة, هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
فيجئ الجواب الإلهي له: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }الصافات144. أتاه الجواب بالنجاة {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ }الأنبياء88
قال الحسن البصري: "ما كان ليونس صلاة في بطن الحوت, ولكن قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء, وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه فإذا عثر وجد متكأً".
وأما رسول الله فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة))
وفي البحر قصص أخرى وعبر تترى, فهذا الطاغية فرعون يدركه الغرق فيدعو بالتوحيد { آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }يونس90 وسمعت الملائكة دعائه فنزل جبريل إليه سريعًا, منجدًا؟ لا, مغيثًا؟ لا, وإنما يأخذ قاع البحر ووحله فيدسه في فيه خشية أن تدركه الرحمة.
وبعدها آتاه الجواب {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }يونس91.
لقد سمعت الملائكة دعاء كلا المكروبين, ولكن فرق عظيم, فالأول: تقول فيه: صوت معروف في أرض غريبة, هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
وأما الآخر فينزل جبريل يدس الوحل في فيه خشية أن تدركه الرحمة.
فما الفرق بين الحالين, والكرب واحد, والصورة واحدة؟!! إن الفرق واضح, والبون شاسع.
فرق بين من عرف الله في الرخاء ومن ضيعه, فرق بين من أطاع الله في الرخاء ومن عصاه.
فيونس رخاؤه صلاة ودعاء ودعوة.
وفرعون رخاؤه ظلم وفسق وكفر وجحود.
ولا يزال لطيف صنع الله عز وجل بأوليائه وعباده الصالحين يتوالى عليهم في حال الشدائد والكرب, فيفرج كربهم, وينفِّس شدائدهم حيث كان لهم مع الله معاملة في الرخاء.
فزكريا يدخل على مريم فيجد عندها رزقًا, يجد عندها فاكهة لم يأتِ أوان حصادها بعد, قال: { أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ }آل عمران37 ورجع زكريا وفكر ورأى، فإذا هو طاعن في السن وامرأته مع كبر السن عقيم لا تلد, ولكن!! الذي الواحد القهار قادر على أن يرزقه ولدًا وإن كان طاعنًا في السن وامرأته عاقر.
قال بعض السلف: قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرًا عنده فخافته فقال: يا رب, يا رب, يا رب, فقال الله: لبيك لبيك لبيك, قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً }مريم4 و لكن زكريا له مع الله أعمال و قرب {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء }آل عمران38 .
فجاءه الجواب على الفور {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً }مريم7
أقول ما سمعتم و استغفر الله ........
الخطبة الثانية
الحمد لله علي إحسانه و الشكر له على توفيقه و امتنانه , و أشهد أن لا غله غلا الله وحده لا شريك و أشهد أن محمد عبد الله و رسوله , صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين .
أما بعد
فيا عباد الله
إن الشدائد في طريقنا لن تخطئنا, ولن نخطئها, وإن خير ما نلقى به هذه الشدائد معرفة الله في الرخاء.
والصحة رخاء, الشباب رخاء, المال رخاء, الأمن رخاء, الفراغ رخاء, القوة رخاء, فهل نعرف الله في هذا الرخاء.
وأما الشدائد فقد تخطئنا شدة الفقر, فلا نفتقر, وقد تخطئنا شدة المرض فلا نمرض, ولكن لن تخطئنا الشدة التي لا أشد منها, هل يخطئنا الموت؟! وهل أشد منه؟ وهل كرب أعظم منه؟ ولكنها شدة تفرج بمعرفة الله في الرخاء, وإن ربنا أكرم وأرحم وأبر من أن يخذل عبدًا عند ذل ذلك المصرع، وهو قد تعرف عليه حال الرخاء {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }فصلت30 قال بعض السلف: يدخل هؤلاء الجنة, وإن لذة الفرحة لا تزال في قلوبهم يوم بشروا عند الموت بالجنة.
أمامنا شدة لن تخطئنا ولن نخطئها, أمامنا شدة القبر, وشدة الحشر, وشدة العرض, وشدة المنقلب إما إلى جنة وإما إلى نار.
هذه شدائد نحن أحوج ما نكون إلى أن يعرفنا الله فيها.
إن من عرف الله في الرخاء يدخل الجنة, ويقول عند دخولها: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }الطور28
أما المعرضون عن ربهم في الرخاء فيعرضون على النار ويقال لهم { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ الأحقاف20
يا عبد الله:
احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف
هذا و صولوا ............