×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

حياة البشر .. مظنة للعبر

حياة البشر .. مظنة للعبر

كما هي العادة ؛ أمتطي - في كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع - صهوة ركابي ، ميمماً شراعه نحو منحدرات تهامة ، للتندر مع الصحاب ، والتنادم مع الأحباب ، في استراحة الحجاز ، أسفل العقبة ، حيث الأجواء المعتدلة ، والأرياج العبقة ، والهدوء الناعم الأخاذ .
وحينما أشْرفتُ على الانحدار من على سفح الجبل الموازي لمقر ضيافة البلدية تجاه غايتي.
أدرت في تمام الساعة الخامسة بعد العصر مذياع سيارتي ؛ لأستعلم - من خلال النشرة الإخبارية - عما استجد في قضايا البلد ولأجل القضاء على ملل طريق العقبة المستبد . فلم تَطُل النشرة ، ولم تنبئ بخيرٍ مما أنبأت به في يوم أمس ، غير أن برنامجاً تلاها أحدث في نفسي حدثاً أسلمني لقيد الإنصات لمحتواه ؛ وغمرني في بؤرة الحزن طيلة المنحدر .
اسم البرنامج (حوار من الداخل) ، من النوع الحواري الذي يشتت الملل ، ويدني الانتباه ، ويجبرك على التركيز من بدئه وحتى منتهاه ، لا سيما أنه يطرق أمراً بالغ الحساسية ، يمس الناس بدرجة أساسية ، فيه عرض لتجارب النادمين ممن زلة بهم الأقدام ، وهـوا في مزالق الجرم والآثام . وقبل أن آمي لمضمون البرنامج ، أُشير بأنه صَدْح من أثير إذاعتنا الحبيبة إذاعة الرياض ، أما مقدم ذلك البرنامج ومعده ؛ فآمل أن يعذراني .. فذاكرتي يعتريها أحياناً نفحة من نفحات العطب .. الذي يحيل معلوماتها للتسرب والهرب ..
أعود للبرنامج .. فقد كان يستضيف فتاة في تماس مع العشرين من عمرها ، قضت منها أكثر من عام خلف القضبان ، حيث برودة الجدران ، وقيض الحرمان .
تقول وفي صوتها شظية خنقت عذوبته :
\" والدي مبتلى بالاكتئاب الذي أحاله للانطوائية ، وأسلمه للانكفاء على ذاته ، لا يخرج من مخدعه كثيراً ، وإن خرج ؛ خرج للسباب والشتم والضرب ، ثم يعود لمُعْتزَله .
ووالدتي آثرت الخروج من حياتنا لغير رجعة ، وأنا في السادسة .. فبقيت أنا وأخٍ لي يصغرني نصارع الدهر ، ونقارع القهر ، فلم يترك لنا الزمن أي لذة إلا وأنقعها في مرارته ، ولا هدأة إلا وشقها بعصاه .
إخوتنا الكبار تواروا خلف خصوصياتهم ، وانكبوا على تحصيل أرزاقهم ، باعدَت بيننا وبينهم مسافات الوطن ، فكل في فلك يهيم ، فمنهم من يخدم العَلَم في الشمال ، ومنهم من يعمل في الشرق وآخر لا نعلم له كنهه . غير أني لا أنكر بعض أفضال بعضهم ، فقد حرصوا على إدخالنا المدارس و تدبر الصرف على لوازمنا المعيشية والكسائية ، وزيارتنا بين الفينة والأخرى للوقوف على حالنا ، والاطمئنان على سير دراستنا وحال والدنا . والدنا الذي لن أتحدث عنه \".
ثم أطرقت الفتاة لتزم ريقها وتطري حنجرتها به أو على ما أظن إن صدق ظني توقفت لتتجرع حَسْوَة من ماء أو ما شابه .. ثم عاودت الحديث :
\" عادت والدتي للبيت بعد قطيعة دامت أكثر من ثمان سنوات لترمم ما تهالك في الأسرة ، وكنت حينها على مشارف الثانوية ، حيث تعرفت فيها - فيما بعد - على صديقتي التي ما فتئت تقربني من حمأة الفتنة ، وتجرني جراً لأبواب الشر والغَبْنة ، تَلَقَفتني على وسائد عفنة ، وأشرعت لي مصاريع نتنة ، وزادها في تقويض عزائمي هداياها المتتابعة ، وعطاياها السخية التي أنهكت أنفتي ، وخرّت على أثرها عزتي وكرامتي ، فغدوت لها ذَنَبَاً لا يقوى من أمره إلا ما يحكم به الرأس ، فإن جنح يمنة أو يسرة تبعه الذَنَب في غير اكتراث للمغبات والتهلكة . \"
ثم أطرقت الفتاة مرة أخرى ؛ لكن هذه المرة لا لتزتم أو تحتسي ؛ بل أطرقت رغماً عنها لأن غصة داهمتها واعتصرت قلبها ، حيث أجهشت بالبكاء .. واستسلمت للعويل برهة ، ثم واصلت حديثها وهي تنتحب :
\" والدتي كانت تتوسل إلي راجية مني أن أقطع صلتي بصديقتي ، ولطالما جثت على ركبتيها متذللة لي بذلك ، غير أن في كل مرة أنهرها ، وأسبها ، وأدفعها ، وأذكّرها أنها ليست بأمً لي ، فالأم لا تترك أطفالها بين فكي الأسد لتنجو برأسها \"
ثم بدأ يعترى صوت الفتاة شرخاً خنقه من كثرة الندم وهي تقول :
\" والدتي لم تتركنا كما كنت أظن ، إنما والدي هو من طردها ، وسد عليها طريق العودة ، ولم يسمح لها بذلك إلا بعد تدخل أقارب والدي بعد ثمان سنوات ..
والدتي ضحية مثلي ومثل أخي .
ورغم هذه الحقيقة ..
لم آبه بها ..ولم أعرها ظلاً من التفكير فيها .. ولم أزل أترك والدتي في كل مرة أخرج مع صديقتي غارقة في دموعها ، آخذة معي أخي ليقلني بالسيارة لمنزل صديقتي ، وأحيانا يقلنا وصويحباتي للأسواق والمقاهي ، فقد كان يجهل ما نحن فيه لشدة ثقته بي .
صديقتي أثناء غيابي .. تؤلب بقية الفتيات ضدي .. وتوهمهن أني سارقة .. لا أتوانى عن سرقة كل ما أراه حولي ، حتى صدقنها .. وصرت في نظرهن لصة ترتقب الفرصة ..
وفي إحدى زياراتنا لإحدى الصديقات ؛ تسللت صديقتي لحجرة والدة المضيفة لنا ، حيث كانت الأخيرة غائبة عن المنزل ، على أنها ذاهبة لدورة الماء ، وأنا وبقية البنات في حجرة صديقتنا المضيفة ، فاستولت على مجوهرات السيدة الغائبة ، التي علمتُ فيما بعد أن ثمنها يربو على المائتين ألف ريال ,ثم عادت وكأن شيئاً لم يكن .. وبعد مضي أقل من ساعة .. استأذنتُ المضيفة لأطل من خلال نافذة ذات الغرفة ( غرفة الأم ) ، لأن شعوراً انتابني بمقدم أخي .. ولا سبيل للنظر إلا من خلال تلك الحجرة ، فنافذتها تطل على مدخل البيت مباشرة .. فأذنت لي .. وحين لم أر سيارة أخي قادني حظي السيئ للجلوس على التسريحة ، لأصفف شعري ، وأرمم ما تهالك من ( مكياجي ) ، ثم خرجت لهن وهن في انتظاري في الصالة ، ولم تمض دقائق حتى سمعنا سيارة أخي تنعق ببوقها في الفناء ، حيث انصرفنا على الفور .
وفي اليوم التالي .. تفاجأت برتل من العساكر يقتحمون الدار ، تتقدمهم سيدة ؛ ألقت القبض علي بتهمة سرقة المجوهرات .. ووالدتي تنظر لي وقد لفّها الصمت .. ثم خرّت من هول ما رأت ..
والدتي .. التي .. لطالما سخرتُ من خوفها .. عليّ .. ولطالما اشمأززت من بكاءها ، و تذللها ، وكل رجاءاتها لي بأن أكف عن ملاحقة تلك الفتاة .. تتهاوى أمامي .. \"
الفتاة تتوقف عن الحديث وجلجلة البكاء ترتج منها مكبرات الصوت في سياراتي .. ثم عادت لتقول بعد أن هدأت :
\" حتى في هذه اللحظة لم أشارك الحاضرين في إفاقتها من غيبوبتها .. بقيتُ رهينة لذهولي ، وخوفي على نفسي .. نفسي فقط ..
ذهبت معهم دون أن ألتفت لوالدتي ..
أي قلب أحمل بين أضلاعي .. لا شك أنه قلب ميت .
لقد اتهمتني تلك العائلة بالسرقة .. وتم الحكم علي بالسجن لمدة سنتين كاملتين مع تغريمي كامل المبلغ .. وبالرغم من أني بريئة براءة الذئب من دم سيدنا يوسف عليه السلام ، ومن حُرقة الغدر والجور ، ومن تلطخ سمعتي بالعار والفضيحة إلا أن كل ذلك لم يشغل داخلي قشة من بال ..
ما يشغل بالي ويستعمر ذاتي ؛ هي والدتي التي أصيبت بالعمى الكامل .. وأنا هنا ..
والدتي التي أثقل كاهلها السكري ، ونخر قواها الضغط ..
والدتي التي آلمتها بطيشي ، وآذيتها بأنانيتي ..
والدتي التي أردفت على عذاباتها وحزنها ظلاماً دامساً ، وعمىً دائما .
كل ما أرجوه من الله أن أكون لها كما كان سيدنا يوسف لأبيه يعقوب عليهما السلام ..
أريد أن أعود لألثم أقدامها التي ما فتئت تلاحقني بها لتثنيني عن الخروج ..
وأقبّل مقلتيها التي ما برحت الدمع مذ طردها والدي من المنزل ، وأحرمها لذة تربية أطفالها التربية السليمة ..
مقلتاها التي ذرفتا الدمع قبل مصيبتي ، وأثناءها .. وبعدها .. حتى ذهب الله بنورهما ..
سأبذل قصارى جهدي لألّا تذرفاه أبدا ..
ووصيتي لكل فتاة على تراب هذا الوطن .. احذرن بعضكن .. فالفتاة لا يفسدها سوى فتاة مثلها .. الفتاة لا يفسدها إلا فتاة مثلها \"
وجعلت تكررها حتى قاطعها المذيع لينبئ عن نضوب الوقت ، ونهاية الحوار .
وبعد:
فإن الدنيا ليست سوى كتاب ينضوي بين دفتيه صفحات من حكايات وعبر ؛ عنوانه الحياة ، الكل يقرأه ، لكنهم قلة من يدرك معانيه ، ويستلهم ما فيه ، فهنيئاً لمن تجلت له صفحاته وأحسن قراءتها ، وجعلها زيتاً للمصباح القابع بين ضلوعه ، تغذي روحه بأنوار العبرة بمآسيها ونفسه بومض العظة بحيثياتها و شواهدها .
وما سطرته لكم فيما مضى ؛ قصة من ملايين القصص المدونة على صفحات الحياة ، تستوجب التأمل والقراءة المتأنية لتباينات ألوان الحياة وفقاً لتفاوت الأقدار في حياة البشر .

وصلت لاستراحة الشباب .. ولم تزل تلك العبارة .. (عبارتها الأخيرة ) تطنب بتردد داخل أذناي، وتطرق سمعي بشدة ..
هل حقاً ( الفتاة الفاسدة .. مُفسدة لأي فتاة ) ؟



الأستاذ
عبد الرحمن بن ظافر الشهري
 0  0  2860