×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

مع #القراءة


إذا اعتللتُ فكتبُ العلمِ تشفيني * * * فيها نزاهة ألحاظي وتزييني
إذا اشتكيت إليها الهم من حزن * * * مالت إليَّ تعزيني وتسليني(1)

طلب العلم وحصوله لا يحصل إلاّ بالقراءة الجادة ، والحفظ وثبات المعلومة لا يحصل إلاّ بتكرار القراءة والمداومة عليها ، وكثرة القراءة والتكرار لا يكون إلاّ بالعزم والمثابرة والعزلة عن الناس .
فقد كان العلماء يقرؤون كثيراً ويحفظون كثيراً لولعهم وشغفهم بالعلم وطلبه ومؤانسة الكتب من وحشة مجالس الناس ، ويلازمون كتبهم ليلاً ونهاراً سفراً وحضراً في صحتهم واعتلالهم ، حتى عشقوا الكتاب وصارت لهم نعم الجليس والقراءة مثل النفس والهواء .
اعتزلوا كل مشاغل الدنيا وملذاتها ، وابتعدوا عن القيل والقال ، ومجالس الغيبة واللغو وانشغلوا بمدارسة الكتب وتحصيل العلم والخير ، فكانت لذتهم وراحتهم في ذلك ، يخلو في بيته ويحادث سطور كتبه ويجري في حلبات فكره .
قيل لابن المبارك ـ رحمه الله ـ لماذا لا تجالسنا ؟ فقال : أذهب فأجالس الصحابة والتابعين ؛ وأشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه .(2)
فكان ينظر في علمهم ويستفيد من آثارهم من كتبه ، فعاش مرتاح البال ذا طمأنينة لا تشوبها هموم ولا غموم ولا أمراض ولا أسقام من تعب الدنيا وجمع شتاتها ، فراحة الكتب وأنسها وسعادتها لا تعدلها سعادة ، بل نعجب من حال هؤلاء العلماء الذين كيف قرؤوا كتباً ومطولات ـ لو رآها أحدنا لأصيب بصداع نصفي !! ـ في أوقات وجيزة قرؤوها وربما تكراراً أو نسخاً لها باليد لقلة نسخ تلك المخطوطات العلمية أو التاريخية .
يقول توماس : لقد نشدت الراحة في كل مكان ولم أجدها إلاّ في الجلوس بعيداً في ركن مع كتاب صغير .(3)
فعادة القراءة هي المتعة الوحيدة التي لا زيف فيها ؛ إنها تدوم عندما تتلاشى كل المتع الأخرى ، واستبدال ساعات السأم بساعات المتعة والراحة مع الكتب وطيب ما فيها ، فمن جرّب ضائقة الحياة وجد راحته ومتعته بين صفحات الكتب والمجلدات ، لأن العلم وطلبه ولذته من أشرف المهن .
الكتب هي وسائل الوصول إلى هذه الغاية ، وهي النوافذ التي تطل على حقائق الحياة ، ولا تغني النوافذ عن النظر . (4)
يقول لورد شاننغ : الكتب هي المفاتيح إلى كنز الحكمة ، الكتب هي بوابات إلى أراضي السرور ، الكتب هي الممرات التي تؤدي إلى فوق ، الكتب هي أصدقاء ؛ فتعال ودعنا نقرأ .(5)
نفضت يدي من كل خلّ عرفته * * * وإن شاقني خلٌّ فيا حبذا الكتب
سأحيا وحيداً كالطريد ، وربّما * * * يُسّر الفتى بالبعد إن ساءه القرب(6)
فمن عجائب أخبارهم في القراءة السريعة مع استيفاء المعلومة وثباتها ما نقله الذهبي : عن السِّلفي : كان المؤتمن الساجي (ت507) لا تُمَلُ قراءته قرأ لنا على ابن الطيوري كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" للرامهزي أول كتاب مفرد في علوم الحديث (465صفحة) في مجلسٍ واحد .(7)
وهذا الحافظ أبو الحجاج المزّي (ت742) يقرأ " المعجم الكبير" للطبراني ـ وهو مطبوعٌ في أكثر من عشرين مجلداً ـ بحضور الحافظ البرزالي في ستين مجلساً .
قال السخاوي : في ترجمة عثمان بن محمد بن أبي عمرو الديمي الشافعي (ت908) لما عدد مقروءاته في رحلته المدنية : " وقرأ وهو هناك صحيح البخاري بتمامه في الروضة الشريفة في أربعة أيام " .(8)
وفي ترجمة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ المسماة بـ " الإنجاز " أن أحد الطلبة قرأ على الشيخ " سنن النسائي " في سبعة وعشرين مجلساً .
والقراءة المتكررة تثبت المعلومة وترسخها ليسهل الرجوع لها لاحقاً ، فبعض الناس يرى أن القراءة لنفس الكتاب مرات كثيرة مملة أو تفوت فوائد أخرى ، ولكن يرجع هذا إلى انطباع القراء ، ومطالعة الكتاب الواحد مرات مع تباعد فتراتها يفتح باباً من العلوم الجديدة .
قال العقاد : إن قراءة كتابٍ واحد ثلاث مرات أنفع من قراءة ثلاثة كتب في الموضوع نفسه .
جاء في ترجمة الإمام غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي (ت518) قال قرأت بخط بعض أصحابنا : أنه سمع أبا بكر بن عطية يذكر أنه كرر " صحيح البخاري " سبع مئة مرة .(9)
وذكر القاضي عياض في ترجمة الإمام أبو بكر الأبهري (ت375) أنه قال عن نفسه : قرأت " مختصر ابن عبد الحكم " خمس مئة مرة ، و " الأسدية " خمساً وسبعين مرة ، و " الموطأ " خمس وأربعين مرة و " مختصر البرقي " سبعين مرة و " المبسوط " ثلاثين مرة .(10)
هؤلاء من كرسوا حياتهم للعلم وطلبه ، وبذلوا في سبيله كل غالٍ ونفيس وتلذذوا بالقراءة ولم يتعبوا أنفسهم بهذه الدنيا ، بل تجد أحدهم جليس كتابه ولم يتمردوا على صفحات كتبهم البيضاء ، وبيض لهم طيب ذكرهم بعد رحيلهم ، فكم من ميت في قبره وهو حيٌّ بين الناس بذكره وبعلمه وما تركه من العلم للناس ، وكم من حيّ بين الناس ولا ذكر له بينهم لانشغاله بغير العلم والقراءة والثقافة .
لماذا لا نجعل هؤلاء قدوتنا ؟
لماذا لا نستقطع من أوقاتنا الثمينة ـ ولو ربع ساعة يومياً ـ وقتاً يسيراً للقراءة ؟!
لماذا لا نقرأ ، ونرغبُ أنفسنا في القراءة ؟
لماذا نرى القراءة تخلف وضياعٌ للأوقات ؟
لماذا لا نحمل هم العلم ؟
لماذا لم نفكر يوماً في فائدة العلم ؟
لماذا لا فكر أحدنا كيف ارتقى أهل العلم بين الناس ؟
لماذا لا نفكر كيف تبوء العلماء هذه المكانة في المجتمع ؟
لماذا لا يجعل أحدنا له جدولاً يومياً للقراءة ؟
فلو قرأ أحدنا عشر صفحاتٍ يومياً ، انظر كم صفحة قرأ في أسبوع ثم في شهر ، ثم انظر كم كتاباً قرأ خلال العام الواحد ، هذا ليس بالأمر السهل إلاّ لمن يسره الله له ، وليس بالأمر الصعب على من يريد طلب العلم والقراءة المفيدة .
قال أبو الحسن علي بن الحسين : لولا تقييد العلماء على الدهر خواطرهم بالأخبار ، وكتبهم بالآثار ، لبطل أول العلم وضاع آخره .(11)
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما .

كتبه
عيسى بن سليمان الفيفي
24 / 3 / 1439هـ


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) ـ تقييد العلم (ص 143) .
2) ـ عشاق الكتب (ص 160) .
3) ـ أقلام كتبت عن الصداقة والكتاب (ص 52) .
4) ـ أنا للعقاد (ص14) .
5) ـ حصاد الفكر العالمي (ص 63) .
6) ـ أغاريد السحر علي الجندي (ص 207) .
7) ـ سير أعلام النبلاء للذهبي (19 / 310) .
8) ـ الضوء اللامع للسخاوي (5 / 141) .
9) ـ الغنية للقاضي عياض (ص255) .
10) ـ ترتيب المدارك (ص 224) .
11) ـ مروج الذهب للمسعودي (ص 2 / 67) .
 0  0  768