مجتمع الواتس
مجتمع الواتس
سأفتتح بتعريف الواتس، لأنه سيأتي من أبنائي بعد سنين ليست بالبعيدة من لايعرف الواتس، نظرا للتسارع الكبير في التقنية، مثلما أصبحت رسائل الوسائط المتعددة وخدمات الواب من الماضي بعد أن كانت حديث الناس في وقت من الأوقات.
الواتس هو عبارة عن منتج يجمع الناس في هاتفك المتنقل، بطريقة تستطيع مها أن تحادثه أو ترسل له بمجرد أن تأتيك الرغبة في ذلك، فأحيانا تتذكر شخصاً لم تتواصل معه منذ أيام أو أشهر أو ربما سنين، فما هو إلا أن تخرج هاتفك من جيبك وتختار اسمه من القائمة ثم ترسل له رسالة اطمئنان أو عتاب أو محبة!! هل رأيتم أبسط من هذا؟!!
ولكن من يقرأ كلامي يجب ألا يستغرب أنه وبالرغم من هذه السهولة والانسيابية في الأمر، إلا أن الناس تباعدوا أكثر على مستوى الأفراد، وبدأ يتكون مجتمعٌ يمكن أن نطلق عليه "مجتمع الواتساب" أو "الواتس" للاختصار .. فماهي سمات هذا المجتمع ومن هم أفراده وماهي مبادئه وقيمه؟
بدأت تتشكل في هذا البرنامج تكتلات يطلق عليها "مجموعات" حسب الاهتمامات، أو حسب القرابة، أو حسب التخصصات، أو حسب الموقع الجغرافي، فمثلا "مجموعة الرحالة العرب" لمن يهتمون بالسفر ، و"مجموعة الأقارب"، وهناك مجموعة أخص للعائلة، ثم مجموعة الأسرة الواحدة، وهناك مجموعات تتعلق بالعمل الحكومي، ومجموعات الجيران على سبيل المثال، ثم إن هذه المجموعات شأنها شأن أي مجتمع من المجتمعات، تتفاوت اهتماماتها بحسب التخصص، أو نوعية الأعضاء الفاعلين فيها، ومن هنا بدأت تتشكل مباديء أو لنقل مواثيق تؤصل العلاقة بين أفراد هذا المجتمع، فبعض المجموعات المتخصصة بدأت بسن قوانين تمنع الحديث في غير التخصص، وبعض المجموعات حتى وإن كانت "حرة" بدون إطار تخصصي يجمعها، إلا أنها لم تستثن نفسها من الضوابط، فمثلا يمنع المنقول ويمنع إرسال المواد المخالفة لبنود معينة تتفق عليها المجموعة، وهنا بدأت تتشكل ملامح إدارات افتراضية في هذه المجموعات، لضبط المشاركات والتقيد بما تم الاتفاق عليه، وليس غريباً أن تجد في هذا المجتمع من يعلن تمرده وعصيانه على المجموعة وبالتالي يقوم "بالخروج من المجموعة" ليمارس نوعا من الاحتجاج على بعض الممارسات الإدارية.
هذا الصباح وكأنني لأول مرة أنتبه لماهية هذا المجتمع كوني أحد أفراده! لفت انتباهي بعض الأمور، سأحاول إشراك القاريء معي في هذا الشعور الذي عشته.
قمت باستعراض برنامج "الواتس" من جهاز الحاسب وليس من الجوال على عادتي، فرأيت من خارج البرنامج تنوعاً عجيباً في قائمة المجموعات التي أنا عضو فيها، وجدت مجموعةً فيها عزاءٌ لأحد الأعضاء توفي والده، وفي المجموعة التي تحتها أعضاءٌ يتبادلون طرائف ونكت صباحية تحمل معها الابتسامة، ومجموعة أخرى يتحدثون في أمر سياسي وما هو الواجب وما هو خلاف الواجب في هذه القضية أو تلك، بينما انخرطت مجموعة أخرى في نقاش حول اقتصاديات بعض الدول حول العالم، وكيف أن هذه الدولة تنهار وتلك تتململ مؤذنة باستيقاظها من كبوتها ، وتلك مجموعة تحاول أن تسترضي أحد الأعضاء خرج منها بعد أن تلقى كلمة جارحة من أحد الأعضاء والذي بدوره أبدى استغرابه لأنه أطلقها على سبيل المزاح، ومجموعة تعالج إشاعات دأب على إرسالها أحد الأعضاء، ومن ينبهه على عدم صحتها، فإنه يكيل له الاتهامات ويقوم بالتشكيك بنية هذا الذي حاول توضيح الحقيقة، وأنه لا يعرف أبجديات الدبلوماسية والحكمة وأنه يجيد فن "الاستقعاد"..
حاولت أن أعقد مقارنة بين "مجتمع الواتس" الافتراضي والمجتمعات الحقيقية، فوجدت نقاط تشابه ولكن هناك فروقات كبيرة، وهذه الفوارق ستؤثر بلا شك على شخصية الإنسان، وعطائه، واندماجه مع مجتمعه الحقيقي إن لم يتنبه لطريقة التعامل مع هذا المجتمع "الواتسابي" ويعي الفروقات بينه وبين المجتمعات الحقيقية الواقعية، فمثلا :
مجتمع الواتس تغلب عليه النزعة الجماعية، فالنقاش غالبا جماعي، وأمام البقية، وهنا يبدأ كل شخص في التحفز لإثبات وجهة نظره لأنه أمام الجمهور، بينما يندر أو يقل أن تجد نقاشا ثنائياً خارج المجموعة، أيضا من النادر أن تجد نفسك في المجتمع الحقيقي منخرطا في تنوع كبير من الثقافات والتخصصات مثلما يحصل في "الواتس"، ففي المجتمع الواقعي قد تجلس في العمل من الصباح إلى ما بعد الظهر مع مجتمع واحد وأشخاص لهم نمط واحد طوال اليوم، ثم تنتقل في المساء لأناس آخرين إما العائلة أو استراحة "الشلة" أو الأقارب، وهم أيضا لهم نمط متناغم غالبا، لكن لا يحصل اندماج بين المجموعتين، مجموعة الصباح ومجموعة المساء وهو الأمر الذي لا يحصل في مجتمع "الواتس"، حيث تجد نفسك محاطا بمجموعات متباينة، فيها الغث وفيها السمين، وفيها الخلافات وفيها التعازي والطرائف مثلما ذكرت في بداية المقال، وإن لم تتدارك نفسك بعدم الانسياق الكامل وراء كل هذه المجموعات فسيكون هذا على حساب تفكيرك وذاكرتك وصحتك واستقرارك النفسي.
أتفهم تماما رغبة الكثير من الأشخاص في عدم القبول بعضويته في مجموعات "الواتس"، وأظنه اختصر الطريق على نفسه، ولكني أيضا أتمنى من الجميع وأولهم أنا أن نحاول التوازن بين المجموعات المختلفة، فليس شرطاً الدخول في كل النقاشات في كل المجموعات، وليس شرطاً الدخول في جدال مع كل عضو في كل مجموعة، وليس شرطاً أن تكون وكالة أنباء المجموعة الذي يسبق الجميع في نقل أي خبر من أي مصدر بغض النظر عن صحة الخبر، كما أن التغافل أحياناً كثيرة هو السلوك الأمثل في هذا المجتمع.
الواتس هو عبارة عن منتج يجمع الناس في هاتفك المتنقل، بطريقة تستطيع مها أن تحادثه أو ترسل له بمجرد أن تأتيك الرغبة في ذلك، فأحيانا تتذكر شخصاً لم تتواصل معه منذ أيام أو أشهر أو ربما سنين، فما هو إلا أن تخرج هاتفك من جيبك وتختار اسمه من القائمة ثم ترسل له رسالة اطمئنان أو عتاب أو محبة!! هل رأيتم أبسط من هذا؟!!
ولكن من يقرأ كلامي يجب ألا يستغرب أنه وبالرغم من هذه السهولة والانسيابية في الأمر، إلا أن الناس تباعدوا أكثر على مستوى الأفراد، وبدأ يتكون مجتمعٌ يمكن أن نطلق عليه "مجتمع الواتساب" أو "الواتس" للاختصار .. فماهي سمات هذا المجتمع ومن هم أفراده وماهي مبادئه وقيمه؟
بدأت تتشكل في هذا البرنامج تكتلات يطلق عليها "مجموعات" حسب الاهتمامات، أو حسب القرابة، أو حسب التخصصات، أو حسب الموقع الجغرافي، فمثلا "مجموعة الرحالة العرب" لمن يهتمون بالسفر ، و"مجموعة الأقارب"، وهناك مجموعة أخص للعائلة، ثم مجموعة الأسرة الواحدة، وهناك مجموعات تتعلق بالعمل الحكومي، ومجموعات الجيران على سبيل المثال، ثم إن هذه المجموعات شأنها شأن أي مجتمع من المجتمعات، تتفاوت اهتماماتها بحسب التخصص، أو نوعية الأعضاء الفاعلين فيها، ومن هنا بدأت تتشكل مباديء أو لنقل مواثيق تؤصل العلاقة بين أفراد هذا المجتمع، فبعض المجموعات المتخصصة بدأت بسن قوانين تمنع الحديث في غير التخصص، وبعض المجموعات حتى وإن كانت "حرة" بدون إطار تخصصي يجمعها، إلا أنها لم تستثن نفسها من الضوابط، فمثلا يمنع المنقول ويمنع إرسال المواد المخالفة لبنود معينة تتفق عليها المجموعة، وهنا بدأت تتشكل ملامح إدارات افتراضية في هذه المجموعات، لضبط المشاركات والتقيد بما تم الاتفاق عليه، وليس غريباً أن تجد في هذا المجتمع من يعلن تمرده وعصيانه على المجموعة وبالتالي يقوم "بالخروج من المجموعة" ليمارس نوعا من الاحتجاج على بعض الممارسات الإدارية.
هذا الصباح وكأنني لأول مرة أنتبه لماهية هذا المجتمع كوني أحد أفراده! لفت انتباهي بعض الأمور، سأحاول إشراك القاريء معي في هذا الشعور الذي عشته.
قمت باستعراض برنامج "الواتس" من جهاز الحاسب وليس من الجوال على عادتي، فرأيت من خارج البرنامج تنوعاً عجيباً في قائمة المجموعات التي أنا عضو فيها، وجدت مجموعةً فيها عزاءٌ لأحد الأعضاء توفي والده، وفي المجموعة التي تحتها أعضاءٌ يتبادلون طرائف ونكت صباحية تحمل معها الابتسامة، ومجموعة أخرى يتحدثون في أمر سياسي وما هو الواجب وما هو خلاف الواجب في هذه القضية أو تلك، بينما انخرطت مجموعة أخرى في نقاش حول اقتصاديات بعض الدول حول العالم، وكيف أن هذه الدولة تنهار وتلك تتململ مؤذنة باستيقاظها من كبوتها ، وتلك مجموعة تحاول أن تسترضي أحد الأعضاء خرج منها بعد أن تلقى كلمة جارحة من أحد الأعضاء والذي بدوره أبدى استغرابه لأنه أطلقها على سبيل المزاح، ومجموعة تعالج إشاعات دأب على إرسالها أحد الأعضاء، ومن ينبهه على عدم صحتها، فإنه يكيل له الاتهامات ويقوم بالتشكيك بنية هذا الذي حاول توضيح الحقيقة، وأنه لا يعرف أبجديات الدبلوماسية والحكمة وأنه يجيد فن "الاستقعاد"..
حاولت أن أعقد مقارنة بين "مجتمع الواتس" الافتراضي والمجتمعات الحقيقية، فوجدت نقاط تشابه ولكن هناك فروقات كبيرة، وهذه الفوارق ستؤثر بلا شك على شخصية الإنسان، وعطائه، واندماجه مع مجتمعه الحقيقي إن لم يتنبه لطريقة التعامل مع هذا المجتمع "الواتسابي" ويعي الفروقات بينه وبين المجتمعات الحقيقية الواقعية، فمثلا :
مجتمع الواتس تغلب عليه النزعة الجماعية، فالنقاش غالبا جماعي، وأمام البقية، وهنا يبدأ كل شخص في التحفز لإثبات وجهة نظره لأنه أمام الجمهور، بينما يندر أو يقل أن تجد نقاشا ثنائياً خارج المجموعة، أيضا من النادر أن تجد نفسك في المجتمع الحقيقي منخرطا في تنوع كبير من الثقافات والتخصصات مثلما يحصل في "الواتس"، ففي المجتمع الواقعي قد تجلس في العمل من الصباح إلى ما بعد الظهر مع مجتمع واحد وأشخاص لهم نمط واحد طوال اليوم، ثم تنتقل في المساء لأناس آخرين إما العائلة أو استراحة "الشلة" أو الأقارب، وهم أيضا لهم نمط متناغم غالبا، لكن لا يحصل اندماج بين المجموعتين، مجموعة الصباح ومجموعة المساء وهو الأمر الذي لا يحصل في مجتمع "الواتس"، حيث تجد نفسك محاطا بمجموعات متباينة، فيها الغث وفيها السمين، وفيها الخلافات وفيها التعازي والطرائف مثلما ذكرت في بداية المقال، وإن لم تتدارك نفسك بعدم الانسياق الكامل وراء كل هذه المجموعات فسيكون هذا على حساب تفكيرك وذاكرتك وصحتك واستقرارك النفسي.
أتفهم تماما رغبة الكثير من الأشخاص في عدم القبول بعضويته في مجموعات "الواتس"، وأظنه اختصر الطريق على نفسه، ولكني أيضا أتمنى من الجميع وأولهم أنا أن نحاول التوازن بين المجموعات المختلفة، فليس شرطاً الدخول في كل النقاشات في كل المجموعات، وليس شرطاً الدخول في جدال مع كل عضو في كل مجموعة، وليس شرطاً أن تكون وكالة أنباء المجموعة الذي يسبق الجميع في نقل أي خبر من أي مصدر بغض النظر عن صحة الخبر، كما أن التغافل أحياناً كثيرة هو السلوك الأمثل في هذا المجتمع.
بقلم: علي بن غالب