×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

المفهوم اللغوي و الاستراتيجي للردع

ابو فراج
بواسطة : ابو فراج

تطالعنا الصحف كل يوم بالعديد من المقالات ، ونسمع ونشاهد في القنوات الفضائية والتلفاز محادثات الحد من الاسلحة الاستراتيجية وخفض القوى النووية ، فتتملكنا الدهشة ازاء كل ذلك . وأحيانا يتعذر علينا استكشاف ما يدور حقا ، ولكن سرعان ما تنجلى الحقائق فنوقن ان المختصين يسعون لحفظ السلام ودرء شبح الحرب .
وكثيرا ما تبدو كلمة (الردع) لفظا ضبابيا مبهما ، اذ ما ان يستعين المرء بالمعجم ناشدا مفهوما محددا لها ، حتى يدرك انها ، كأي كلمة اخرى ، تحمل مدلولا خاصا لدى الساسة والصحفيين ، كما ان الكلمة نادرا ما تستخدم من دون كلمة (النووي) التي تشكل معها مصطلحا محددا . ففي الصحافة البريطانية مثلا يكاد المرء يعثر دائما على تعبير(الرادع النووي) كتعبير قائم بذاته مما يجعله ينسى بان هنالك انواعا اخرى من الردع .
والواقع انني لا اذكر على وجه التحديد مقالا قد ناقش "الردع" على وجه التفصيل، ويرجع السبب حسب اعتقادي الى ان الكتاب يفترضون ان جملة القراء على دراية تامة بمفهوم الردع ، بينما هؤلاء الكتاب انفسهم يفتقرون الى تلك الدراية.
ومن هنا جاءت محاولتي المتواضعة هذه لتوضيح ما ارى حسب اعتقادي بأنه الاركان الاساسية للردع وبشيء من التبسيط غير المخل ، فالردع في اكثر من وجه امر بسيط ... ابسط بكثير مما يتصوره الكثير من الكتاب ، ولكنه في نواح اخرى يكون اكثر تعقيدا مما يبدو للوهلة الاولى .
نستطيع ان نبدأ من المعجم ، حيث يعرف قاموس اكسفورد كلمة (يردع) " يثبط الهمة او يحول الاتجاه المزمع التحرك فيه او يمنع بالتخويف" ، " يخوف من فعل اي شيء" او "يمنع من التصرف او الاقدام عن طريق التلويح بحظر او أذى
ونلاحظ انه من خلال هذه التعريفات لم يرد ادنى ذكر للأسلحة النووية ، فان كان الامر كذلك ، لماذا يتحدث الناس عن "الروادع النووية" ؟ ولا شك انك لو سالت مجموعة من الناس عن مفهومهم للردع لضم معظمهم كلمة "النووي" او "السلاح النووي" في اجابته .
وتستطيع ان تصل من تعريف قاموس اكسفورد الى ان الردع يحيط بنا من كل صوب . انك لاتستطيع ان تقتحم الضوء الاحمر عند اشارة المرور ، لماذا؟ لأنك تعلم سلفا انك لو فعلت ذلك على مرأى من شرطي المرور لفرض عليك غرامة باهظة او ادخلك السجن ، وفي هذه الحال جرى منعك من الاقدام على ارتكاب فعل ما خوفا من الاذى الذي كان في انتظارك ، وبهذا يكون الردع قد ادى غرضه .
ولكي نناقش مختلف العناصر في سياسة الردع الناجمة يتعين علينا ان لا نطرح على بساط البحث اكثر من قصة اب يقول لطفله الصغير " لو اخذت قطعة الحلوى هذه فسأصفعك" فان امتنع الطفل عن اخذ الحلوى ، يكون الردع قد ادى غرضه ، ولكننا ، نعلم جميعا ان الطفل قد يكون عنيدا فيأخذ الحلوى ويذهب الردع المرتقب ادراج الرياح .
وفي هذه الحال يتعين علينا ان نبحث عن اسباب فشل سياسة الردع ، ولا ننسى انه من المستبعد تماما ان يقول الاب لطفله " لو اخذت قطعة الحلوى هذه فسأذبحك كما تذبح الشاة " اذ يغلب الظن ان الاب لو فعل ذلك لامتنع الطفل عن اخذ الحلوى ، ومع ذلك قد يأخذ الطفل الحلوى لايلوي عن شيء ، وهنا ايضا ينبغي ايضا ان نناقش اسباب فشل سياسة الردع رغم جسامة الاذى الذي كان في انتظار الطفل .
عندما قال الاب للطفل " اذا اخذت قطعة الحلوى هذه فسأصفعك" يكون الاب قد وضع الركن الاول من سياسة الردع ـ الاتصال .
فالاتصال عنصر له اهميته اذ انه من حق الطفل ان يكون على علم بالتصرف الممنوع ( وهو اخذ الحلوى في هذه الحالة) ونتائج مخالفته (الصفعة).
فلو طبقنا مثل الطفل وأبيه على ساحة السياسة الدولية لوصلنا الى "الخط الساخن" الذي يقع بين واشنطن وموسكو ليساعد على الاتصال بينهما على اعلى المستويات ابان الازمات الحادة ، فليس من الحكمة في شيء ان تنصب الولايات المتحدة الامريكية مئات الصواريخ النووية لمنع الاتحاد السوفيتي من الحالق الضرر بمصالحها اذا لم تدع الاتحاد السوفيتي يعرف تلك المصالح وعواقب التعرض لها .
لنأخذ ازمة الصواريخ الكوبية كمثال ، كانت روسيا تنشئ قواعد للصواريخ في كوبا كان كل شيء يسير على ما يرام ولم ينفجر الوضع الا بعد ان ابلغت الولايات المتحدة روسيا بان انشاء الصواريخ يعد تهديدا مباشرا لمصالحها ، ويدلنا ذلك على ان الاتصال امر في غاية الاهمية لكلا الطرفين لفهم ما يدور.
ان الركن الاول من اركان الردع ـ الاتصال ـ يعني التأكد من ان الامة او الفرد يجب ان يكون على علم بالفعل الممنوع وبالعقوبات المترتبة عند ارتكابه.
اما الركن الثاني ، كما في مثال الاب وطفله ، فيعني ان يملك الاب المقدرة على صفع الطفل . وهو كذلك طالما ان يملك الامكانية بحكم قوته العضلية في ان يأخذ بتلاليب طفله ويصفعه .
ويترتب على ذلك ان الولايات المتحدة اذا قالت لروسيا "اوقفوا افعالكم وإلا لن تنجو موسكو من طائلة صواريخنا" فسوف لن يشك الروس قيد انملة في ان الامريكيين يملكون المقدرة على تنفيذ ما قالوه ، وطالما ان الولايات المتحدة تملك الامكانية فان الركن الثاني في عملية الردع موجود ، اما اذا هددت سريلانكا الهند بإطلاق صواريخ نووية على نيودلهي اذا لم تتوقف الاخيرة عن ممارساتها ، فان الهند لن تتوقف لان المعلوم لدى الرأي العام الهندي ، ان سريلانكا لاتملك امكانية اطلاق صواريخ نووية على نيودلهي .
ونفهم من ذلك ان غياب الركن الثاني من عملية الردع ـ الامكانية ـ يجعل العملية مفرغة من المعقول .
لنرجع الان الى الطفل ، لقد كان يعلم ان اخذه الحلوى يجلب عليه صفعة من ابيه وان اباه يملك الامكانية في صفعه ، بقي القول ان اقدام الطفل على اخذ الحلوى من عدمه يعتمد على الركن الثالث في عملية الردع ، فان كان يؤمن بان اباه يعني ما يقول فلن يجرؤ على اخذ الحلوى ، والمقصود هو ان العقوبة (الصفعة) لابد ان تكون ممكنة الوقوع ، بمعنى ان الطفل اذا لم يكن يصدق بان والده سيصفعه فان سيأخذ الحلوى رغم علمه باحتمال قيام والده بصفعه ورغم ان كلاهما على دراية بما يجري .
ولننظر الى الوضع في اوروبا عام 1939م عندما حاولت بريطانيا ردع النازيين ابان محاولتهم احتلال بولندا ، لقد ابلغ البريطانيون هتلر بان اذا لم ينسحب من بولندا في فترة محددة فلسوف يعلنون عليه الحرب .
ونستطيع ان نعود الى المشكلة البريطانية / البولندية في عام 1939م مرة اخرى.
ان هتلر لم ينسحب من بولندا ( أ ) ربما لأنه ظن ان بريطانيا لا تملك امكانية خوض الحرب . (ب) ربما اعتقد بان بريطانيا غير عازمة على خوض الحرب . و/ أو (ج) ربما اعتقد انه حتى لو كانت بريطانيا تملك امكانية خوض الحرب وعازمة على خوضها فان العواقب قد لاتكون وخيمة ، بعبارة اخرى ، حتى لو كانت الاركان الثلاثة الاولى موجودة فان الركن الرابع ـ العقوبة الجسيمة ـ كان غائبا ـ لقد ظن هتلر ان سيتحمل عواقب اعلان بريطانيا للحرب . ومهما كانت الاسباب التي تدور في ذهن هتلر حينئذ الا ان النتيجة هي فشل سياسة الردع .
ويقيني ـ كما اسلفت ـ ان الردع امر في غاية البساطة ، وان نجاحه لايتطلب اكثر من اربعة اركان ، وهي : الاتصال ، والإمكانية ، والمصداقية ، والعقوبة الجسيمة . اما ان يكون الردع معقدا فيعزى ذلك الى ركن المصداقية والى ما اذا كانت العقوبة في نظر الطرف الاخر جسيمة ام لا . وربما رأيت معي انه كان من الضروري ان نجزئ سياسة الردع الى عناصرها الاولية اذ بدون فهم الحقائق البسيطة يتعذر علينا ان نستوعب العناصر غير الموضوعية و الاكثر صعوبة التي تتعلق بالعقوبة الجسيمة او غير الجسيمة ، والآن اعود للحديث عن هذين العنصرين .
لا شك في ان مختلف الدول تعلم في قرارة نفسها ما يمكن وما لا يمكن ان تفعله في ضوء مصالح الدول الاخرى ولو فيما يتعلق بالمسائل الرئيسية على الاقل ، وغالبا ما ينشا الاتصال بين هذه الدول في البداية كما هو الحال مع الرئيسين "ترامب وبوتن" .
اما الدول الاخرى التي انقطعت بينها العلائق الدبلوماسية فنستطيع ايضا ان تتحدث الى بعضها حتى ولو عن طريق طرف ثالث .
تلك الاتصالات غالبا ما تفلح في اداء المقصود منها ولو انها لا تعمل بنفس السرعة التي يعمل بها الخط الاحمر ، لهذا كله نرى انه ليس ثمة مشكلة اتصال حقيقية بين الدول على الرغم من نشوء وسوء التفاهم بينها من حين لآخر.
وركن (الامكانية) هو ايضا ركن لايحيط به كثير من المشكلات اذ بأساليب المراقبة الحديثة وبفضل تبادل المعلومات والتجسس تستطيع الدولة ان تكون فكرة واضحة عن امكانيات الدولة الاخرى في المجالات العسكرية والصناعية والعملية.
لهذا كله لاشك في انه اذا هددت دولة اخرى بالانتقام لسبب او اخر فان مكانية تنفيذ الانتقام ستكون موجودة بالفعل ، اذ من الخطأ التهديد بدون امكانية تنفيذ التهديد ، لان الحقيقة سرعان ما تنجلي للخصم ، ومن هنا نخلص الى ان (الامكانية) ركن موضوعي محدد وليست ركنا ذاتيا .
المعضلة الحقيقة تكمن في مجال المصداقية ( هل يعزم الامريكيون حقا في اطلاق صواريخ على روسيا ؟ هل سيصفعني ابي حقا؟) وفي مجال تقدير ما اذا كانت العقوبة جسيمة ام لا (هل ستكون خسائرنا جسيمة اذا اطلق الروس صواريخهم علينا " اعرف ان اخذي الحلوى لا اجازي عنه بقطع راسي ، بل قد اجازي عند بالصفعة)
ويمكننا ان نستعرض بعض المواقف غير العسكرية للنظر الى المشكلة من زاوية اخرى لا يرد فيها ذكر لحياة او موت . مثلا ، عندما تقدمت اسبابها بطلبها للانضمام الى السوق الاوروبية المشتركة ، كانت على علم بأنها ستضطر الى الحد من ايراداتها من الذرة من امريكا اذا اصبحت عضوا فعليا في السوق ، وكانت اسبانيا مستهلكا هاما للذرة الامريكية ، ولذلك صرحت الاخيرة ان الاولى اذا قلصت ايراداتها للذرة فان امريكا ستضطر الى فرض تعرفات اضافية على البضائع الاسبانية الواردة اليها ، وكما ترى فان ركن الاتصال قد تم في هذا الموقف وان التصرف الممنوع بات معلوما ( وهو الحد من استيراد الذرة الامريكية) وان العقوبة اضحت بينة ( وهي فرض مزيد من التعرفات على البضائع الاساسية مما يكون له مفعول في الحد من دخول البضائع الاسبانية الى امريكا) والمعلوم ان امريكا تملك كلا من الامكانية والمصداقية في تنفيذ ما عزمت على تنفيذه .
بقي ان نعرف ما اذا كانت العقوبة جسيمة في نظر الاسبانيين . ولذلك كان لزاما على الاسبانيين ان يقرروا ما اذا كانوا ستحتملون فقدان السوق الامريكية، اذ يترتب على ذلك اقدامهم على او انصرافهم عن اتخاذهم الخطوة الممنوعة (الانضمام الى السوق الاوروبية المشتركة ) ، وما حدث بعدئذ هو انه تم التوصل ال حل وسط ارتضاه الجانبان الامر الذي يدفعنا الى القول بان سياسة الردع قد نجحت .
اما الوضع في جنوب افريقيا فيتميز بمزيد من الطرافة اذ ابلغت حكومة بريتوريا من قبل دول عديدة بأنها ان لم تعدل من مواقفها السلبية تجاه حقوق الانسان فأنها ستواجه مجموعة من العقوبات ، والواضح ان مستر بوته لم ينظر الى العقوبات المرتقبة بأنها جسيمة مقابل تخليه عن سياسته العنصرية مما ادى الى اخفاق سياسة الردع حتى الان ، بعبارة اخرى لم يحرك التلويح بالعقوبات في مستر بوته ساكنا 0 بل ظل في السير على ما كان عليه ) الى ان طبقت العقوبات ، وسيكشف لنا المستقبل ما اذا كانت العقوبات المنتظرة جسيمة لدى مستر بوته ، فان كشف المستقبل انها كذلك نجحت سياسة الردع واضطر مستر بوته الى وضع حد لسياسته الممنوعة واتخاذ اللازم نحو حقوق الانسان .
في الحالتين الانفتي الذكر كان من الممكن اختبار العقوبات لمعرفة ما اذا كانت جسيمة ام لا ، غير انه من غير الممكن فعل ذلك في المجال العسكري لان التجربة تصبح مسالة حياة او موت . لقد اختبر هتلر العقوبات البريطانية عام 1939م ولكنه لم يدرك جسامتها الا بعد موت الملايين من البشر .
انه الارتياب في مدى الاثار المترتبة عن العقوبة ذلك الذي يكمن وراء تلك المناقشات عن "الانتقام الشامل " و " الاسلاك العاثورية" و"الاستجابة التدريجية" و"الاستجابة المرنة " و"مبادرة الدفاع الاستراتيجية" وما الى ذلك من التعابير المدهشة ذات الصلة بالردع . غير ان هذه التعابير لاتضيف الى القديم جديدا.
لقد كان الرومان يعرفون اساسيات الردع معرفة تامة ، اذ قبل الفين من السنين السوالف انبرى رجال مثل هوريس وببلياس سايراس ليصيغوا افكارا لخصها فيجيتياس بعد عدة سنوات في مقولته المأثورة "دع من يريد السلام يستعد للحرب" ولعلهما يعنيان بذلك ان المرء اذا اراد ان يمنع الاخرين من اشعال حرب ضده فعليه ان يملك امكانية فعالة في خوض الحرب ، على المرء ان يظهر نفسه قادرا على الحاق خسائر جسيمة بالمعتدي ، فإذا امتلك المرء الامكانية فليس من العزيز عليه ان يمتلك المصداقية .
ولربما ذهب القارئ الى ان الهجوم بالحراب والسيوف لايمت الى الواقع الحالي بصلة ، لكني اقول بان المبادئ المشمولة في القتال ايا كان نوعه لاتتغير .
في عام 1876م كتب الفريد نوبل مؤسس جائزة نوبل ومخترع الديناميت والمتفجرات المشهور الى بيرث فوم ساتنر الكاتبة المرموقة ومحبة السلام طارحا عليها اول نظرية شاملة في الردع قرأتها في حياتي : " اود ان اخترع مادة او ماكينة لها من القوة الهائلة والدمار الشامل مما يجعل الحرب مستحيلة الحدوث الى الأبد
وفي عام 1892م كانت بيرث مشاركة في احد مؤتمرات السلام في بيرن عندما خاطبها نوبل قائلا " ربما تفلح مصانعي في انهاء الحروب بأسرع مما تفعل مؤتمراتكم " ثم مضى يقول بنظرة ثاقبة "واليوم الذي يتمكن فيه جيشان من تدمير بعضهما في ثانية واحدة ، سترتد كل الامم المتحضرة عن الحرب ممتلئة ذعرا وهلعا" ثم مضى قائلا " .... ثم تعمد "تلك الامم" لتسريح جيوشها" فما قاله نوبل ومن الواقع ان اختراعه المذكور"الماكينة ذات القوة الهائلة والدمار الشامل" تحقق منذ عام 1945م نستطيع ان نحكم إما اننا امم غير متحضرة ، او ان نظرية نوبل نفسها كانت خاطئة .
في عام 1945م فتح العالم عينيه على شبح القنبلة الذرية ، فما كتب دين اشيصون في مؤلفه "نوع ما من تنظيم القوى العظمى" للحيلولة دون دمار بني الانسان" في عالم يملك امكانية الدمار الشامل ، لقد وضع اشيصون وليلينثال خطة عرفت بخطة بارش تهدف الى منع الانسان من تدمير نفسه ، وتنص على انشاء هيئة دولية قوية لتطوير الطاقة الذرية للأهداف السلمية وتمنع في نفس الوقت اي دولة منفردة من تطوير تلك الطاقة على نحو مستقل ، كما تشتمل الخطة على نصوص تنظم اجراءات التفتيش وصمامات الامان ، ولكنها مع ذلك لم تر النور لان الروس رفضوها من الوهلة الاولى .
ولعل القارئ يذكر ان الروس لم يمتلكوا القنبلة الذرية الا في عام 1950م ومن ذلك الحين ارتددنا من الحرب النووية على الاقل ممتلئين ذعرا وهلعا كما تنبأ نوبل ، ولكن لماذا يا ترى ما زلنا نقتل بعضنا بعضا قتلا جماعيا بالأسلحة التقليدية بينما العقوبة الشاملة (بالأسلحة الذرية) تحت ايدينا؟
حسنا ، لنعد الان الى مسالة المصداقية لنقول ان اب الطفل سيذبحه فقط اذا ارتكب جريمة بشعة ، ولكنه لن يفعل ذلك لمجرد اخذه الحلوى .
ولعلك تذكر ان الطفل ربما كان صائبا في تحليله الذي ذهب فيه الى ان عقوبة الذبح جسيمة لحد لايصدق وان اخذ الحلوى يغري بتكبد الصفعة التي ليست هي بعقوبة جسيمة في رايه . وفي كلتا الحالتين سيأخذ الطفل الحلوى .
والآن دعنا نترجم منطق الطفل الى سلوك ناضج على مستوى العلاقات الدولية وننصت الى كلمات كليمنت اتليز رئيس الوزراء البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة والتي يشير فيها الى العقوبة المتمخضة عن الهجوم النووي حيث قال ( كلما كانت العقوبة مطلقة ، كلما كان الاحجام عن استخدامها كبيرا) وعلى الرغم من ان الكثيرين نحوا منحى نوبل في القول بان اسلحة الدمار الشامل بين ايدينا ولذلك ستوقف الحرب ، الا ان هذا الدعم يبدو خاطئا ، قال السير جون سليسور الذي كان مشيرا في القوة الجوية الملكية البريطانية ذات مرة " ان الكلب الذي تحتفظ به لحراسة القط يستطيع ايضا حراسة القطط الصغيرة" ويقصد بذلك ان القنبلة الذرية يمكنها ان تحول دون وقوع الحروب الكبيرة والصغيرة على السواء ، وبأعمال اليسير من النظر نستطيع القول بان السير جون كان مخطئا ببنما كان آتليز مصيبا ، لماذا ؟
للإجابة على ذلك السؤال لعله من الضروري ان اصحح الكثير من الافكار الخاطئة التي جاءت في شكل نظريات في المجال النووي في ظروف وأوقات مختلفة ولكنها استخدمت ـ نقلا او استدلالا ـ في سياقات خاطئة . ويتعين علينا في هذه الحال ان ننظر الى ان النظريات كما جاءت والى الاحداث في غمرة الظروف والملابسات التي كانت تحيط بها عند وقوعها .
كل ما هنالك ان الوضع في الخمسينات كان كالتالي : قنبلة نووية وقوات تقليدية لحلف شمال الاطلسي تقل في حجمها كثيرا عن قوات حلف وارسو (ولو شئنا ان نضع الامور في المنظور الزمني الصحيح لوجدنا ان اول استخدام مسجل لمصطلح سلاح "تقليدي" كمصطلح مضاد لسلاح "نووي" كان في صحيفة الهيرالد تربيون النيويوركية عام 1952م) ويعتقد الجميع ان ما منع حلف وارسو من شن هجوم على حلف شمال الاطلسي هو تحسب الانتقام الشامل الذي تستخدم فيه القنبلة الذرية من قبل الاخير .
والواقع ان الكثيرين يذهبون الى ان على حلف شمال الاطلسي ان يزيد من تخفيض امكانيته التقليدية حتى يجعل من وقوع انتقام شامل الاطلسي هو تحسب الانتقام الشامل الذي تستخدم فيه القنبلة الذرية من قبل الاخير .
والواقع ان الكثيرين يذهبون الى ان على حلف شمال الاطلسي ان يزيد من تخفيض امكانيته التقليدية حتى يجعل من وقوع انتقام شامل اكثر مصداقية ، ويمضي هؤلاء في القول " لو كنا نملك قوات تقليدية فسنلجأ الى استخدامها لمواجهة العمليات الهجومية الصغيرة التي ما نفتأ نفلح في صدها حتى نفاجأ بقوات اكبر حجما قد تجبرنا لان نخسر الحرب . ولكي لانخسر الحرب سنضطر الى تفجير قنبلة نووية على روسيا ، فلماذا لانستخدمها منذ البداية اذن؟ اما اذا كنا لا نملك قوات تقليدية فسيعلم الروس اننا سنلجأ الى القنبلة النووية مع بداية الحرب . وبهذه الطريقة سيجد حلف شمال الاطلسي انه لن يملك غير اسلحة نووية لاتكلف صيانتها والمحافظة عليها تلك الاموال الطائلة التي تكلفها القوات التقليدية.
اما الجانب الاخر من المسالة فيشبه الى حد كبير مسالة الطفل والتهديد بذبحه ونقطة آتليز المتعلقة بالأحجام عن استخدام الردع الشامل : " ماذا لو فقد احد القادة الروس صوابه وأصدر التعليمات الى قواته المحلية باحتلال جزء من المانيا الغربية ، هل سنلقي قنبلة ذرية على روسيا لأننا لا نملك القوة التقليدية الكفيلة بردع ذلك الضابط المخبول؟ " ولا شك ان كثيرا من النقاش سيدور بين اعضاء حلف شمال الاطلسي مثل الموافقة على القاء القنبلة ولكن ما الذي يحدث اذا ما قرر الروس شن هجوم خاطف احتلوا فيه بضعة اميال من اراضي حلف شمال الاطلسي ؟ سيغدو من الواضح حينئذ ان "الكلب الذي كان يحرس القط لم يعد قادرا على حراسة القطط الصغيرة".
وانطلاقا من هذه الحقيقة ولدت فيما بعد نظريات مختلفة مثل " نظرية السلك العاثوري" ونظرية الاستجابة "التدريجية" و"المرنة" وغدا من الواضح انه يتعين تطبيق عقوبة اقل جسامة من الذبح ، والمقصود هو تحسين مستوى القوات التقليدية الى ان يصبح العلماء قادرين على الحد من اثار الانفجار النووي مستقبلا .
وفي الجانب الاخر من الكرة الارضية قامت كوريا الشمالية بغزو كوريا الجنوبية في عام 1950م ، وكشف هذا الحدث بما لايدع مجالا للشك ان الكلب النووي لم يقو على حراسة الحروب الصغيرة ، اذ كيف يخطر على بال الولايات المتحدة ان تلقي بقنابل ذرية على روسيا فقط لان نظاما شيوعيا في جنوب اسيا عمد الى غزو دولة موالية للغرب ؟ حينئذ منع الرئيس الامريكي الجنرال مكارثر قائد قوات الامم المتحدة حتى من القاء قنابل تقليدية على الصين ، فبات من المحال قطع راس الطفل بسبب تناول الحلوى .
غير انه اتضح لنا في حلف شمال الاطلسي ان ما كنا نخشاه كان صحيحا ، ذلك ان حشود القوات المعادية يمكن ان تكتسح القوات الصديقة قليلة العدد حتى ولو كانت الاخيرة افضل تسليحا .
فلكي تحد من تدفق حشود القوات الكورية الشمالية والصينية لم يعد يتعين على الامم المتحدة ان تحور على اسلحة متفوقة فقط بل يتعين عليها ان تمتلك حشودا مقاربة ان لم تكن مساوية لها في العدد ، بيد انه قد ثبت ان في حكم المستحيل لحلف شمال الاطلسي ان يصارع حلف وارسو من حيث عدد القوات التقليدية التي يمكن ان يزج بها في الحرب ، فماذا كان الحل اذن ؟
لقد تم اخيرا تطوير اسلحة ذات عائد تكتيكي مباشر مما يعني اننا يمكن ان نعطي الطفل صفعة مريرة دون ان نضطر الى ذبحه ، وليس من شك في انه مثلما تغيرت الامكانيات تغيرت النظريات ايضا ، ومن الطبيعي ان يطور الجانب الاخر امكانياته بحيث اصبح من الممكن لحلف وارسو ان يوقف استخدام وسائل الاطلاق المتمثلة في قاذفات القنابل المأهولة في تلك الايام ، ومن ثم اصبح الطفل قادرا على تجنب قطع رأسه دون ان ينجو من الصفعة.
لقد فشل الردع ليس بسبب انعدام المصداقية (عدم جرأة الغرب على القاء القنابل على موسكو فقط لان الشرق احتل شريحة من المانيا الغربية) بل بسبب انعدام الامكانية ، اذ ان قاذفات النابل لن تخترق المجال الجوي بالأعداد الكافية لأحداث عقوبة فاعلة وجسيمة حقا ، ولكن ما ان استعاد الردع مصداقيته لدى الجميع ( من حيث انه غدا من الممكن تحقيق استجابة تدريجية بواسطة الاسلحة التكتيكية للاعتداءات الصغيرة) حتى بدأ يفقدها مرة اخرى اذ اتضح انه لايمكن تطبيق العقوبة الجسيمة بسبب عدم توفر وسائل الاطلاق ، بيد انه ومع مجيء الصواريخ البالسيتية التي يمكن ان تخترق الدفاعات الروسية حول موسكو تغير الوضع واستعاد الردع مصداقيته للمرة الثانية حيث توفرت الوسائل لتحقيق استجابة تدريجية للاعتداءات جسيمة للمعتدي .
ليست هذه نهاية المشكلات المتعلقة بالمصداقية ، اذ يخالج الدول الاخرى في الغرب شك في الولايات المتحدة ستعمد حقا الى تطبيق العقوبة الجسيمة رغم عدم شك في الشرق في ذلك ، ويتساءلون انه اذ شن الشرق هجوما على الغرب في اوروبا فما الذي يدعو الولايات المتحدة للتدخل لحماية شريحة من المانيا فتعرض بذلك نفسها لهجوم نووي بالصواريخ الروسية في عقر دارها؟ وعلى الرغم من ان الولايات المتحدة تملك من الاسلحة النووية ما تستطيع من تدمير روسيا عدة مرات الا ان البريطانيين والفرنسيين يرون من الضروري امتلاك روادعهم النووية الخاصة بهم .
وها هي بريطانيا على استعداد لاتفاق ثروة طائلة في سبيل شراء ت رايدنت لإحلالها محل قوة بولاريس التي شارفت على خريف العمر .
لقد دار جدل حاسم حول صفقة ترايدنت ذهب فيه الاشتراكيون الى ان لا تلجأ بريطانيا الى شراء ترايدنت بل عليها ان تنفق نفس الاموال في تحسين القوى التقليدية ، وبطبيعة الحال اشتمل هذا النقاش على الكثير من الجوانب السياسية البحتة مثل ميزة خفض العطالة عن طريق زيادة حجم القوات المسلحة واحتمال الحصول على مزيد من الاصوات من لوبي نزع الاسلحة النووية . ولكن دعنا نقصر الحديث على الجانب العسكري .
بادئ ذي بدء ، اذا وضعنا في الحسبان بان حلف شمال الاطلسي سيستمر لأربعين سنة اخرى فلا نرى ثمة ضرورة ان تحتفظ بريطانيا برادعها النووي المنفصل ، وغني عن القول ان حلف شمال الاطلسي دام حتى الان اكثر من اي حلف في التاريخ ، فهل ياترى سيدوم اكثر من ذلك ؟ لا احد يعلم ، ولكنه اذا كتب له الانهيار في نهاية المطاف فيعين علينا المحافظة على رادع مستقل.
اما العامل الاخر هو ان بريطانيا ، من واقع كونها جزيرة صغيرة مكتظة بالسكان ، ستجد ان خلق دفاعات مستقلة تقيها شر الهجوم بالصواريخ البالستية امر متعذر وباهظ التكاليف ، فإذا كانت القوات التقليدية غير قادرة على الاضطلاع بالدور الدفاعي فما الحل اذن ؟ الاجابة هي ان الحل يعتمد على الاستفادة من تهديد الانتقام النووي في حالة وقوع اي هجوم ، فبحكم ان ثمة احتمالا ضئيلا في ان يقوم معتوه بهجوم على الجزر البريطانية فقد يكتسب ا لانتقام الشامل مصداقيته مرة اخرى ، ويبدو لي اننا ، لكي نحافظ على مصداقيتنا ، علينا ان نعود الى التفكير الذي كان سائدا في الخمسينات حين كنا نعتقد اننا يجب ان نخفض من حجم قواتنا التقليدية بحيث يدرك المعتدي اننا لانملك خيارا نلجأ اليه في حالة الاعتداء غير الرد النووي ، والطريف ان النظريات التي تكتب في الردع تتغير حسب تغير الظروف ، لكن المبادئ تبقى كما هي .
ثم ماذا عن حرب النجوم او مبادرة الدفاع الاستراتيجي كما يحلو للبعض ان يسميها ؟ وأي علاقة تربطها بالردع ؟ اجابة على هذا السؤال علينا ان نلقي بنظرة على مفاهيم مثل ـ التدمير الاكيد المتبادل ، القيم الاخرى ، وإمكانية الضربة الثانية ـ وهي تعابير كثيرا ما تستخدم بدرجات متفاوتة من الفهم وسوء الفهم ، وتتبع المشكلة بالضرورة ليس فقط من العقوبة الجسيمة بل ايضا من امكانية تطبيق تلك العقوبة ، فطالما تملك الولايات المتحدة الامريكية امكانية مهاجمة روسيا بالصواريخ لإلحاق خسائر جسيمة بها تكون للردع مصداقيته .
ومع ذلك ، حال ان تمتلك روسيا المقدرة على ضرب منصات الصواريخ الامريكية تعد امكانية الحالق الخسائر الجسيمة السالفة الذكر مشكوكا فيها لدرجة تضعف من قيمة الردع وتجعل امكانية قيام روسيا بتنفيذ ضربة وقائية معادا للنظر .
اما اذا شنت روسيا هجوما مباغتا على وسائل الاطلاق الامريكية ، فيصبح من الممكن قيام الولايات المتحدة بإلحاق خسائر بروسيا مستقبلا الامر الذي يسلب الردع مصداقيته ، وهذا يعيدنا مرة اخرى الى وجود او غياب اركان الردع.
وفي النهاية تمكن الولايات المتحدة من استحداث امكانية (الضربة الثانية) ، مما يعني انها ستكون قادرة على الحاق خسائر جسيمة بالروس حتى بعد تنفيذ ضربتهم الوقائية ، وبهذا استعاد الردع وجوده من جديد ، ليس هذا فحسب ، بل تم ايجاد اقمار صناعية تكتشف اطلاق اي صواريخ روسي على الولايات المتحدة في الحال .
والواقع ان امكانية تطبيق العقوبة الجسيمة قد تم المحافظة عليها بوسائل شتى من جانب كل من روسيا والولايات المتحدة ، الامر الذي يدعونا الى القول بأننا الان نعيش في مرحلة التدمير الاكيد المتبادل .
تسعى مبادرة الدفاع الاستراتيجي بالضرورة الى خلق نظام قادر على تدمير الصواريخ المعادية في الفضاء وتحويلها الى هباء قبل وصولها الى اهدافها وحسب زعم الرئيس الامريكي يبدو ان هذا النظام دفاعي بحت اذ لم يتم تصميمه في الاساس لمهاجمة روسيا ، انما قصد منه تدمير الصواريخ الروسية المنطلقة الى الاراضي الامريكية .
ولاغرو اذن في ان نرى ان النظام المقترح غدا هدفا للنقاش المفتوح ، فإذا كانت مبادرة الدفاع الاستراتيجي قادرة على ايقاف الصواريخ الروسية في الفضاء ن يعني ذلك ان روسيا قد فقدت امكانية تطبيق العقوبة الجسيمة على امريكا كركن ضروري في سياسة الردع الناجحة ، ووفقا لنظرة مؤيدي مبادرة الدفاع الاستراتيجي ستمتلك الولايات المتحدة امكانية مهاجمة روسيا بينما لن يملك الروس حولا ولا قوة في الانتقام ، وهذا يعني انتفاء نظرية التدمير الاكيد المتبادل.
وعلى الرغم من ذلك تدور كثير من الشكوك حول مدى امكانية خلق نظام على غرار ما تراه مبادرة الدفاع الاستراتيجي ، وما سيحدث اذا اخترق جزء من الصواريخ الروسية الردع ؟ في هذه الحال ستمثل الصواريخ الروسية التي تصل الى اهدافها في الولايات المتحدة عقوبة جسيمة على هجوم الولايات المتحدة الامر الذي يدل على نجاح الرادع النووي الروسي ، ويبقى سؤالان يدوران في الاذهان : هل يستطيع الرئيس الامريكي ان يجد تفسيرا لمناهضة روسيا لبرنامج حرب النجوم ؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة الامريكية لجم جنون وجنوح وهلوسة كوريا الشمالية التي تزعج العالم حاليا .



أعده بتصرف
عقيد (م )/ محمد بن فراج الشهري
alfrrajmf@hotmail.com
بواسطة : ابو فراج
 0  0  766