×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

الشنفرى ليس صعلوكاً (2)

يقول الشنفرى الشاعر والبليغ الساحر في لاميته المجيدة والفريدة لامية العرب:

1. أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ

المقدمة هي القمة التي تتيح للمتذوق الاطلالة على جميع الانفعالات والأحاسيس في القصيدة أو المعزوفة. وتسمى المطلع في القصيدة الشعرية. والمذهب في النوتة الموسيقية. فتحمل من الأحاسيس أجملها. ومن الانفعالات أفضلها. وهذا النوع من المقدمات ( أقيموا، قفا ) هو الذي يعطي القصيدة وحدتها ويحكم التناسق في بنائها الشعري الى الدرجة التي لا نستطيع أن نكتفي بها أو نفصلها عما يليها.

وقد حاول الشاعر الجاهلي أمرؤ القيس المولود عام 520م تقليد اسلوب لامية العرب لشاعرها الشنفرى المتوفى عام 525م. ومنافستها ومجاراتها بمعلقة على ذات البحر وهو بحر الطويل. وذات حرف القافية وهو حرف اللام. وذات الصور وهي الحيوانات والجبال والصخور. وذات المطلع وهو أمر الأهل أو القوم أو الاصحاب بالقيام. وكادت معلقته تبدأ بفعل الأمر قفوا تيمناً بفعل الأمر أقيموا. وكلاهما أجرى الشعر على صور الأنس والحيوانات والنباتات والجماد. صيانة لغرضه الأقصى فيه من الناس. وقيل : أن النجاح عدوى. كما أن الوباء والإحباط عدوى.

وتأويلاً للحكمة والصور فيها. ولمكانتها عند محبيها وطالبيها. وطالما أن الحضارة العربية حضارة نص. فتأويلها للتبسيط وليس للتسليم. لعلو منزلتها. ولتعلم فصاحتها. وتذوق بلاغتها.

فالشنفرى يقول أقيموا : أعدوا وتهيأوا. بني أمي : الأشقاء والإخوة من الأم. صدور مطيكم : مقدمة كل ما يُمتَطى من الخيل والإبل للهجرة والرحيل طلباً لموارد الكلأ والماء أو هرباً من حلول وباء وبلاء. فإني : يستثني نفسه. إلى قوم سواكم : قوم يساووكم في ميولي القلبية والعقلية والفطرية. فالقلوب تميل رغم اعتدال العقول. لأميلُ : لأكثر ميلا إليهم.

والشاعر يريد ملازمة أرضه. ووداعهم واستعدادهم للرحيل بدونه. وعدم الشفقة عليه والتردد إليه في تركه وحيداً يقاوم الجوع والعطش. لميل طباعه إلى الوحوش التي تجوب السماء والقفار والجبال والأودية فرادى لا تسير أو تحلق في جماعات. ولا تلوي على شيء من الأرض في سهل أو وعر إلا افترسته أو شربته.

والذي حملني على فصل مطلع القصيدة عن البيت الذي يليه. هو قول بعض الشارحين والمؤرخين بأن الشنفرى من الصعاليك أو الخلعاء. والذي قادهم إلى هذا الاعتقاد هو التأويل الخاطئ لقوله إلى قوم سواكم لأميل : ففهموها إلى قوم غيركم لأميل. والتأويل الصحيح هو إلى قوم مساوين لكم في الميول لأميل. وقد وردت في بعض المخطوطات إلى أهل سواكم.

عبدالله بن معدي الخشرمي
 0  0  1478