المرجفون ودورهم في زعزعة الأمن .
من الأهمية بمكان أن يتم تسليط الضوء على الأمور التي ينبني عليها أمن المجتمع وسلامته، لاسيما أن الاضطرابات تحيط بنا من كل جانب من جوانب الحياة، في ظل التطور الهائل لوسائل الاتصالات والمعرفة؛ مما ساهم في انتشار المعلومة بشكل مذهل، حتى أصبح الناس في مشارق الأرض ومغاربها يتفاعلون مع الحدث ككتلة واحدة أينما كان .
والإرجاف من الأمور البالغة الخطورة في سلم الناس وحربهم؛ حيث يمضي بهم إلى الفزع والقلق، ويؤثر على استقرارهم واطمئنانهم، ومن ثم يُعطل الأمل والتفاؤل في النفوس، ويبعث فيها اليأس، ويقتل الطموح ويضعف الهمم ويعرقل العمل، وقد عمل به المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وله مظاهر كثيرة يمارسها المرجفون في عصرنا الحاضر تحت عدة صور، مما يوجب على كل عالم وعاقل ومثقف تنبيه المجتمع إلى الحيطة والحذر، وعدم الانسياق وراء الإشاعات والأراجيف التي يُراد منها تهديد الأمن والاستقرار.
وأصل معنى الإرجاف يدور عند اللغويين على الزلزلة والاضطراب والخوض في الباطل، وهذه المعاني يرتبط بعضها ببعض، كونها نواتج معنى واحد يشملها ويجمعها ويمكن ردها إليه، وهو: عدم الاستقرار في الأمر والأمن، مما يولد في المجتمع خوفاً يتعسر معه استمرار الحياة فضلا عن تطويرها وتحسينها، والمرجفون: يُزيفون الحقائق، ويبثون الإشاعات، ويختلقون الإثارة؛ حتى يتصور السامع أن قولهم حق، وأن الحادثة هي القاضية، وهم قوم جبلوا على اختلاق الكذب، وزرع الخوف والشك في النفوس، ونشره بين المجتمع لإحداث الفتنة والبلبلة بين الناس، ومن ثم زرع الأحقاد والخروج على الولاة، كما في الفتنة التي قتل بسببها عثمان - رضي الله عنه- فما كانت إلا أراجيف وكذب ألقاه أهل الباطل .
والإرجاف بث للإشاعات المحبطة؛ بغرض خلخلة الثبات عند المسلمين، ونشر الخوف بينهم، وهو بالطبع مقصود لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، والمرجفون يستخدمون لنشر أراجيفهم جهلاء الناس والسُّذَّج منهم؛ لإرباك المسلمين؛ حيثُ يشيعون فيهم أخباراً توحي بضياع الدين، وفساد المجتمع، ويقوم جهلاء العوام بنشر هذه الدعاوى، ليصبحوا أبواقًا للمرجفين من حيث لا يشعرون.
وقد بين الله سبحانه وتعالى خطر الإرجاف في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، والعمدة في ذلك قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا} [سورة الأحزاب اية : 60].
قال القرطبي – رحمه الله – في تفسير هذه الآية : " أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال: " المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة" قال هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء".
ثم قال – رحمه الله - : وعرف المرجفون بأنهم قوم ينشرون الخوف بين الناس وليس ذلك فحسب، ولكن أيضا: " كانوا يقولون: أصحاب الصفة قوم عزاب، فهم الذين يتعرضون للنساء. وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حباً للفتنة. وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة. وقال ابن عباس: الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به .
قال السعدي - رحمه الله - : ( لنغرينك بهم ) " أي: نأمرك بعقوبتهم وقتالهم، ونسلطك عليهم، ثم إذا فعلنا ذلك، لا طاقة لهم بك، وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال : ( ثم لايجاورونك فيها إلا قليلا ) أي: لا يجاورونك في المدينة إلا قليلا بأن تقتلهم أو تنفيهم. وهذا فيه دليل، لنفي أهل الشر، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين، فإن ذلك أحسم للشر، وأبعد منه " .
ويتضح من النقول السابقة أن الآية نزلت في قوم على اختلاف أقوالهم يبغون إثارة البلبلة بين المؤمنين وإشغالهم وبث الرعب في قلوبهم، والتشكيك في فعلهم وسلوكهم وتحريضهم على ولاة أمورهم.
وتتعدد صور الإرجاف في المجتمع المسلم وتتنوع، وذلك لأن المرجفين لا ينفكون يدبرون بالليل والنهار، فلكل زمان منافقوه، ولكل زمان دسائسه ومحبو الفتنة بين المؤمنين، ولا يزالون يطورون ويحسنون بضاعتهم؛ فتارة يغيرون طريقة العرض، وتارة يكون بتطوير الوسيلة، وأخرى يكون باستخدام الأحدث والأكثر تأثيرًا، وغير ذلك كثير. مما يجعل مواجهتهم حملا ثقيلا على المصلحين، خاصة بعد تطور التقنية الحديثة، والطفرة الهائلة في الإنترنت والاتصالات، ولا شك أن حصر الصور التي يرجفون بها في المجتمع صعب؛ لأنهم يتلونون كل يوم، لكننا في هذه العجالة نحاول عرض بعض هذه الصور التي يحاولون بها نشر الفوضى في المجتمع المسلم، وبث الذعر فيه، ومنها ما يلي :
1. إشاعة أخبار كاذبة لا أساس لها من الوجود، وذلك بغرض تهييج الجماهير، وزعزعة الثقة بين المسلمين وولاة الأمر .
2. دندنة المرجفين حول ما يحدث من فساد في بعض أوساط المسلمين، وتعميم هذه الحالات، والتركيز عليها؛ للبرهنة على أنَّ الأُمَّة ليست بخير.
3. نشر السوءات والفواحش التي من حقها أن تستر وليس في كشفها حاجة إلا حاجة نفوسهم الخبيثة.
4. يضخمون الأخطاء، ويهولون الوقائع، ويبحثون عن النقص والقصور؛ بغرض الإثارة .
والمرجفون قوم يدّعون الإصلاح، وهم مخربون ويفرحون بالخراب ويشاركون فيه، ويدعون العلم والإصلاح، وهم يعملون ضده، إما لجهلهم بالدين ورسالته، وإما لهوى في أنفسهم، فليكن المسلم على حذر من هؤلاء وليعمل على قطع دابرهم، ودابر كل مفسد ومنافق حتى تكون كلمة الله هي العليا، وتصبح الساحة صافية نقية، ولنقف صفاً واحداً مع الدولة وأجهزتها الأمنية التي تسعى للحفاظ على دين المجتمع، وأمنه، وأخلاقه، وتحارب الجرائم والمنكرات، وتأخذ بأيدي السفهاء، وأرباب الفساد .
أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا أمننا وأماننا وإيماننا، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحمي بلادنا ويعزها بالإسلام، وأن يوفق ولاة أمرنا ويعينهم ويسددهم، ويبارك في جهودهم.