×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

"وإنا لفراقك يا أبي لمحزونون"

عندما جلست في مقعدي بالطائرة عائداً إلى مدينة الرياض بعد وفاة والدي رحمه الله تذكرت جلوسه بالمقعد المجاور لي قبل شهرين وهو ذاهب في رحلته العلاجية وكنت أنظر إليه وعيناه تنطق بأبيات زهير:
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَــعِـــش=ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَســــأَمِ

رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب=تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ

كان يتؤكؤ على عصاه التي لم أعهده يمسك بها من قبل وينظر من نافذة الطائرة في هذا الكون الفسيح ونظراته توحي بدنو الأجل ومفارقة هذه الحياة الدنيا ورجاء ما عند ربه فهو خيرٌ وأبقى.
ناشدني العودة الى مسقط رأسه حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً وكأنه يقول دعني أعود إلى تلك الارض التي عشت بها عقوداً، أعود لأكون بجوار أبي وأمي وكان له ما أراد.
كنت محظوظاً بتشريفه منزلي كلما حان موعد مراجعاته الطبية يلتف أبنائي حوله يأنسون بحديثه ويكنيهم بأحسن الكنى ويغدق عليهم دعواته المباركة.
في مكتبة منزلي أقلب بعض الكتب فأجد قصاصة ملاحظات خطتها يداه كعادته الدائمة في تدوين أي تعليق أو ملاحظة، وبقدر ما يعتريني الحزن بقدر سعادتي أن ترك أثراً في منزلي يراه أبنائي علَهم يحذون حذوه في حبه للقراءة والإطلاع.
عادت بي الذاكرة الى ما يقارب أربعة عقود من الزمن لأتذكر بعض المواقف مع أبي وبره بوالده رحمهما الله جميعاً حيث كان جدي ممسك بيدي في فناء منزلنا القديم وعندها أتى والدي من عمله بسيارة جديدة كان قد إبتاعها بدلاً من الأولى وفي طريقه الى جدي سأله أين سيارتك؟ فقال لقد بعتها، فقال له عد وأحضر السيارة القديمة فما كان من والدي إلا وعاد على عقبيه في لحظته واستعاد سيارته قبل غروب شمس ذلك اليوم طاعة لوالده.
موقف آخر مع والدته رحمها الله حيث أتاها ذلك الرجل يسأل عن والدي ويتوسل إليها بطلب الشفاعة له عند والدي أن يقرضه مبلغاً كبيراً من المال، وعندما أتى أبي أخبرته والدته الخبر فأعطاها المال وسألها أن تعطيه إذا عاد براً بها، كان هذين الموقفين من مواقف كثيرة لوالدي مع أبويه رحمهم الله.
في أيامه الأخيرة وأثناء مرافقتي له في المستشفى أسأله (أوصني يا أبي) فما زاد على قوله أوصيك بطاعة الله وكان رحمه الله يردد في دعائه "رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات" ولا أنسى ذلك الاتصال من رجل طاعن في السن يعزيني في والدي ويقول "فقدنا من كان يدعي للأموات بعد وفاة أبيك" فقلت له أبشر يا عم فالخير باقي في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإذن الله.
أبتـي لــساني فـي رثائِك خانَنِي= ما طـاوعَ القلبَ الجريحَ لســـاني
لـو طـاوعَ الـنفسَ اليراعُ لـمَلَّني=بحــرُ المِـداد وتـاه في شُطـــآني
مـاذا أقـولُ وهل كـلامي مُنصِفٌ=في حــقِّ قُطـبٍ راســخٍ رَبَّـــاني
كانت هذه مشاعر ابن قضى مع والده عقود من الزمن يرتوي بحنانه ويكتنفه عطفه وأبوته فبثثتها على الورق وفي النفس حاجات أَخر فرحمك الله يا أبي وأحسن مثواك ورفع درجتك في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء وإنا لفراقك يا أبي لمحزونون.
 0  0  1349