×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

الوسطية ودورها في حفظ الأمن


تُعد الوسطية من أهم مزايا المنهج الإسلامي، وقد جعلها الله – عز وجل - سمة من سمات هذه الأمة، قال تعالى -: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة: 143] قال ابن جرير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية : إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط؛ لتوسُّطهم في الدِّين، فلا هم أهل غلو فيه - غلوَّ النصارى الذين غالوا بالتَّرهب، وقيلِهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه - تقصير اليهود، الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم وكفروا به - ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه . وقال ابن كثير – رحمه الله - : ولما جعل الله هذه الأمَّة وسطًا، خصّها بأكمل الشرائع، وأقوم المفاهيم، وأوضح المذاهب .

والمراد بالوسط في هذه الآية: " العدل ". فقد جاء في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب! فتُسأل أمته، هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا{ [البقرة: 143] قال: عدلاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(البقرة: 143).

والعدل هو: ما جاء بين طرفين ذميمين، وقد أشار إلى هذا المعنى أهل العلم – رحمهم الله - يقول ابن القيم -رحمه الله – في مدارج السالكين: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو. ودين الله وسط بين الجافي عنه، والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد. ويقول الشنقيطي – رحمه الله -: إن هذا المعنى هو المتسق مع بقية الآية، فقد كانت الوسطية علة لتكليف الأمة بالشهادة على الأمم الأخرى { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } والشهادة لا تقوم إلا بالعدل، ولا تقبل إلا من عدل .

وقد جاءت إلإشارة إلى الوسطية في هذه الآية، بعد أن كان الحديث عن تغيير القبلة، يقول الأستاذ محمد تميم في كتاب الوسطية والاعتدال : ولقد كان تغيير القبلة ابتلاء للأمة الإسلامية ليعلم الله تعالى هل ستثبت على الحق؛ بالثبات على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ أم أنها ستنقلب على عقبيها بما يلقيه السفهاء من الناس عليها من الشبهات وهل ستبلغ رسالة الحق أم ستكتمه خضوعاً لتلك الشبهات، وانهزاماً أمامها، وذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة : 146]. ومن أهم مقاصد الوسطية استقامة المنهج، والبعد عن الغلو والانحراف، ولزوم التوسط والاعتدال، ودين الإسلام يدعو إلى التيسير، وينهى عن التعسير، يدعو إلى اللين والرفق، وينهى عن الشدة والعنف، يدعو إلى الرحمة، وينهى عن القسوة، ومع ذلك نجد من أبناء الأمة فئة تسلك طريق الغلو، وتتمسك بالتشدد، وفي المقابل فئة أخرى تأخذ جانب التقصير والتهاون، وترفع شعار التساهل والترخص، فالأولى : غلبتها الشبهات، والثانية : أسرتها الشهوات. وقد أدى هذا الميل عن الوسطية إلى التطرف والغلو، والتعصب للرأي تعصباً لايسمح لصاحبه برؤية الحق، ولا مراعاة مقاصد الشرع، مما أدى إلى ظهور الإرهاب والعنف، وترويع الآمنين، وسفك دماء المسلمين والمعاهدين؛ بدعوى حراسة الدين، وما الأحداث الإرهابية التي ظهرت مؤخراً، واكتوينا بنارها في هذه البلاد المباركة، إلا نتاج فكر منحرف عن منهج الوسطية والاعتدال، يعمل مروجوه على استخدام العنصر البشري كوقود لفتنة زينوها لأبنائنا وفلذات أكبادنا؛ مستغلين في ذلك عاطفتهم الدينية؛ وحماستهم الفتية .

إن الإلتزام بالوسطية، والابتعاد عن الغلو والتطرف، يعتبر ضماناً من ضمانات استمرار الأمن، لذلك حذر الإسلام من كل ما يعارض الوسطية، ويدعو إلى الغلو والتطرف، وقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو فقال: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " رواه النسائي وصححه الألباني . والوسطية تحقق للإنسان الأمن في دنياه وأخراه، وتحصنه ضد الضلالات الفكرية، وتحمي مصالح الأفراد والجماعات، وتبرأ من الهوى، وتعتمد على العلم الراسخ، وتراعي القدرات والإمكانيات، وتحافظ على المنظومة العقدية والثقافية والأخلاقية والأمنية، وتؤدي إلى الفهم الصحيح للأدلة؛ حيث أن المنهج الشرعي قائم على فهم الأدلة، ومعرفة مقاصد الشريعة .

ومن خلال ما سبق يتضح أن في تحقيق الوسطية حماية لهوية الأمة الإسلامية، المتمثلة في مكوناتها العقدية والثقافية والأخلاقية؛ التي تنفرد بها عن غيرها من الأمم، كما أن في الوسطية حماية لأمن الأمة، ووحدتها في الفكر والمنهج، وتلاحمها في مواجهة الفتن والاضطرابات الفكرية وغير الفكرية.
أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا أمننا وأماننا وإيماننا، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحمي بلادنا ويعزها بالإسلام، وأن يوفق ولاة أمرنا ويعينهم ويسددهم، ويبارك في جهودهم.
 0  0  5961