في انتظار "مشري"
في انتظار "مشري"
ظافر الجبيري
ليس للأديب الراحل المرحوم عبدالعزيز مشري علاقة من قريب أو من بعيد بحديث اليوم، إنه مجرد تشابه أسماء فقط.
"مشري" هنا أسطورة من أساطير بلدتي الصغيرة، وهي بعض ما انفتحت عليه الذاكرة من تراث شفهي الذي ظلّ كغيره عالقاً بالروح كحكايةٍ رحلَ رواتُها وابتعدت السنوات من دون أن تمحوها الأيام، لتظل حضوراً عذباً يعيد الروح إلى المكان الأول محملّةً بضوْع شذا يبقى على مرّ الزمان.
كان الكبار إذا أرادوا إلهاءنا عن أمر ما أو "تصريفنا" بلغة اليوم، وضعوا "مشري" قفلة تسدّ علينا منافذ الكلمات، وتدحر حُمّى التساؤلات، ونحصل غالباً على معلومة ناقصة، لكن وفي لحظة مناسبة شمّرتُ عن إصرار لا بد منه، وفضول قاد إلى لب الحكاية وعمق الأسطورة.
على عُهدة الجدة التي حكتْ، ولسيرته روتْ:
مشري بن طبق "وترحمت عليه بنقاء لا حد له" رجل من أبناء السبيل، مر بإحدى القرى، وتوقف لطلب القِرى، ولما اطمأنوا له منحوه مكاناً للراحة والكَرى، في الصباح، حكى له شيخ القرية ما يعانيه أهلها من هجمات الجراد التي تتكرر كل عام وتقضي على الأخضر واليابس، وطلب منه أن يبذل ما يستطيع ليخلصهم من عدوهم السنوي، وطلب مشري منهم مبلغاً معلوماً من المال.
اجتمع أهل الحل والعقد، وتشاوروا في الأمر، ووافقوا على تنفيذ طلبه إن هو خلصهم من هذه الآفة، وجمعوا له بالفعل مالاً وفيراً نظير أتعابه.
شعر "مشري بن طبق " بمشكلة هؤلاء القرويين البسطاء، ورثى لحالهم أشد الرثاء، وبقي معهم ليرى ما هم فيه من البلاء، وما هي إلا أيام حتى هجم الجراد على محاصيل أهل القرية، وبدأ يعيث فيها عطباً وإفساداً وكأنما قد ألمّ بها الحصاد.
الرجل الغريب، وحسب الاتفاق، مضى أولاً إلى أطراف القرية يجمع الحطب وجذوع الأشجار محاطاً بنظرات الاستغراب من أهل القرية صغاراً وكباراً ثم أوقد ناراً عظيمة، ثم ارتد إلى الحقول التي طافت بها أسراب الجراد، وبدأت بتجريد المزارع من لباسها الأخضر الذي طالما تباهى به الفلاحون، وراح ينثر أوراق الشجر الصفراء والخضراء على الطريق العابر بين الحقول، وسريعاً لحقت به أسراب الجراد وظلت تتبعه، وتغادر الحقول تاركة وراءها السنابل، واصل الرجل سيره إلى جهة النار المستعرة وراح الجراد يتساقط في اللهب بكميات كبيرة.
واندفع الناس يأكلون الجراد مشوياً، بعدما ظل لسنوات يأكلهم عبر طمس محاصيلهم من خريطة الإنتاج، أكلوا وشبعوا، وأبدوا إعجابهم بالخطة الذكية للرجل الغريب، وشعروا بأنهم قد بدأوا حياة جديدة ضد الجوع والجراد، وتراءت لهم أفراح الحصاد وبهجة المحصول.
وجاء وقت الوفاء بالعهد، لكن القرويين غدروا بالرجل، واستكثروا عليه أن يفوز بكل هذا المال الوفير والهدايا، وقرروا، وقد تخلصوا من الجراد نهائياً، أن يرجعوا عن وَعْدهم له، فطالما أنهم تخلصوا من الجراد إلى غير رجعة فلماذا يخسرون المال، مع خسائر المحصول في أعوام مضت.
ذكّرهم الغريب بوعدهم وخوفهم من عقوبة الله فتجاهلوا أمره، وبدأ بعضهم بطرده من القرية، فما كان منه إلا أن أخرجَ من بين ثيابه ناياً قديماً، وراح يعزف عليه لحناً ساحراً حتى اجتمع حوله كل صبيان القرية ثم أرسل شفتيه في لحن آخر، ومضى في طريقه مغادراً يتبعه الصبيان الذين تقاطروا وراءه، وظل الناس مشدوهين لا يحركون ساكناً، وذهب "مشري" يتبعه الأطفال بلا التفاتة إلى الوراء لوداع أهلهم الصامتين كالخشب.
ظل أهل القرية يرقبون الأفقَ والطريقَ الذي انحدر منه الرجل وأبناؤهم الصغار، وينتظرون وينتظرون إلى اليوم والغد إلا أن أحداً لم يعد.
تحول انتظار أهل القرية من أمل متجدّد إلى غائبٍ مطلق، وظلوا كل عام يزرعون ويحصدون، ويخاتلون الزمن، ويشتكون الجراد، وينجبون كل عام أولاداً يوكلون إليهم حماية الزروع، فيما يواصلون الانتظار، وكلما فقدوا شيئاً قالوا: أخذه مشري، وكلما أرادوا الراحة من أسئلة الصغار أحالوا الأمر إلى "مشري" للجواب أو اللا جواب، كبر الصغار وما زال مشري اسماً لما لا يأتي.
فهل "مشري" اسم لكل ما لا يأتي؟ وهل هو البديل المحلي لجُودو؟
أي زمن ذاك الذي ظهر فيه مشري ثم اختفى من حياة الأجداد والجدات؟ ومتى صار غيابه أو تغييبه يحمل كل هذا البُعد الأسطوري؟ وتُحجب وراءه الإجابات الغامضة، ويضيع عند ذكره ما بقي من أسئلة الصغار ليرتدّ الفضول إلى أغوار الخيال العميقة؟ وهل أريد لغياب أو تغييب "مشري" أن يبحث الصغار بطريقتهم عن إجابات لإكمال فراغات الحياة ـ حكاياتهم ـ عندما يكبرون؟
سيظل أهل القرية ينتظرون، وسننتظر معهم، وسنبحث عن أكثر من "مشري" في حياتنا اليومية.
"مشري" هنا أسطورة من أساطير بلدتي الصغيرة، وهي بعض ما انفتحت عليه الذاكرة من تراث شفهي الذي ظلّ كغيره عالقاً بالروح كحكايةٍ رحلَ رواتُها وابتعدت السنوات من دون أن تمحوها الأيام، لتظل حضوراً عذباً يعيد الروح إلى المكان الأول محملّةً بضوْع شذا يبقى على مرّ الزمان.
كان الكبار إذا أرادوا إلهاءنا عن أمر ما أو "تصريفنا" بلغة اليوم، وضعوا "مشري" قفلة تسدّ علينا منافذ الكلمات، وتدحر حُمّى التساؤلات، ونحصل غالباً على معلومة ناقصة، لكن وفي لحظة مناسبة شمّرتُ عن إصرار لا بد منه، وفضول قاد إلى لب الحكاية وعمق الأسطورة.
على عُهدة الجدة التي حكتْ، ولسيرته روتْ:
مشري بن طبق "وترحمت عليه بنقاء لا حد له" رجل من أبناء السبيل، مر بإحدى القرى، وتوقف لطلب القِرى، ولما اطمأنوا له منحوه مكاناً للراحة والكَرى، في الصباح، حكى له شيخ القرية ما يعانيه أهلها من هجمات الجراد التي تتكرر كل عام وتقضي على الأخضر واليابس، وطلب منه أن يبذل ما يستطيع ليخلصهم من عدوهم السنوي، وطلب مشري منهم مبلغاً معلوماً من المال.
اجتمع أهل الحل والعقد، وتشاوروا في الأمر، ووافقوا على تنفيذ طلبه إن هو خلصهم من هذه الآفة، وجمعوا له بالفعل مالاً وفيراً نظير أتعابه.
شعر "مشري بن طبق " بمشكلة هؤلاء القرويين البسطاء، ورثى لحالهم أشد الرثاء، وبقي معهم ليرى ما هم فيه من البلاء، وما هي إلا أيام حتى هجم الجراد على محاصيل أهل القرية، وبدأ يعيث فيها عطباً وإفساداً وكأنما قد ألمّ بها الحصاد.
الرجل الغريب، وحسب الاتفاق، مضى أولاً إلى أطراف القرية يجمع الحطب وجذوع الأشجار محاطاً بنظرات الاستغراب من أهل القرية صغاراً وكباراً ثم أوقد ناراً عظيمة، ثم ارتد إلى الحقول التي طافت بها أسراب الجراد، وبدأت بتجريد المزارع من لباسها الأخضر الذي طالما تباهى به الفلاحون، وراح ينثر أوراق الشجر الصفراء والخضراء على الطريق العابر بين الحقول، وسريعاً لحقت به أسراب الجراد وظلت تتبعه، وتغادر الحقول تاركة وراءها السنابل، واصل الرجل سيره إلى جهة النار المستعرة وراح الجراد يتساقط في اللهب بكميات كبيرة.
واندفع الناس يأكلون الجراد مشوياً، بعدما ظل لسنوات يأكلهم عبر طمس محاصيلهم من خريطة الإنتاج، أكلوا وشبعوا، وأبدوا إعجابهم بالخطة الذكية للرجل الغريب، وشعروا بأنهم قد بدأوا حياة جديدة ضد الجوع والجراد، وتراءت لهم أفراح الحصاد وبهجة المحصول.
وجاء وقت الوفاء بالعهد، لكن القرويين غدروا بالرجل، واستكثروا عليه أن يفوز بكل هذا المال الوفير والهدايا، وقرروا، وقد تخلصوا من الجراد نهائياً، أن يرجعوا عن وَعْدهم له، فطالما أنهم تخلصوا من الجراد إلى غير رجعة فلماذا يخسرون المال، مع خسائر المحصول في أعوام مضت.
ذكّرهم الغريب بوعدهم وخوفهم من عقوبة الله فتجاهلوا أمره، وبدأ بعضهم بطرده من القرية، فما كان منه إلا أن أخرجَ من بين ثيابه ناياً قديماً، وراح يعزف عليه لحناً ساحراً حتى اجتمع حوله كل صبيان القرية ثم أرسل شفتيه في لحن آخر، ومضى في طريقه مغادراً يتبعه الصبيان الذين تقاطروا وراءه، وظل الناس مشدوهين لا يحركون ساكناً، وذهب "مشري" يتبعه الأطفال بلا التفاتة إلى الوراء لوداع أهلهم الصامتين كالخشب.
ظل أهل القرية يرقبون الأفقَ والطريقَ الذي انحدر منه الرجل وأبناؤهم الصغار، وينتظرون وينتظرون إلى اليوم والغد إلا أن أحداً لم يعد.
تحول انتظار أهل القرية من أمل متجدّد إلى غائبٍ مطلق، وظلوا كل عام يزرعون ويحصدون، ويخاتلون الزمن، ويشتكون الجراد، وينجبون كل عام أولاداً يوكلون إليهم حماية الزروع، فيما يواصلون الانتظار، وكلما فقدوا شيئاً قالوا: أخذه مشري، وكلما أرادوا الراحة من أسئلة الصغار أحالوا الأمر إلى "مشري" للجواب أو اللا جواب، كبر الصغار وما زال مشري اسماً لما لا يأتي.
فهل "مشري" اسم لكل ما لا يأتي؟ وهل هو البديل المحلي لجُودو؟
أي زمن ذاك الذي ظهر فيه مشري ثم اختفى من حياة الأجداد والجدات؟ ومتى صار غيابه أو تغييبه يحمل كل هذا البُعد الأسطوري؟ وتُحجب وراءه الإجابات الغامضة، ويضيع عند ذكره ما بقي من أسئلة الصغار ليرتدّ الفضول إلى أغوار الخيال العميقة؟ وهل أريد لغياب أو تغييب "مشري" أن يبحث الصغار بطريقتهم عن إجابات لإكمال فراغات الحياة ـ حكاياتهم ـ عندما يكبرون؟
سيظل أهل القرية ينتظرون، وسننتظر معهم، وسنبحث عن أكثر من "مشري" في حياتنا اليومية.
: نشر في صحيفة المدائن