×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

رحلة العودة للقبيلة

سعد بن مغرم
بواسطة : سعد بن مغرم

رحلة العودة للقبيلة



بقلم / سعد مغرم

القبيلة في ثقافة العربي منذ القدم تمثل البرلمان والسلطة التنفيذية وجيش الدفاع والحاضن الاجتماعي , كانت القبيلة عبارة عن نسيج اجتماعي يحدد جميع الوظائف لكافة أفراد المجتمع , وتحدد القبيلة لأفرادها حدود العلاقات مع الآخرين من الموالاة الى المعاداة الى النسب وإجازة الاعتداء وشن الحرب الى منعها أوالسماح بالانتقام .
تدرج تاثير القبيلة العربية في أفرادها من السلطة المطلقة الى التاثير المحدود ثم العودة نحو القبيلة ولكن بنموذج ثالث بين الطرفين .
قال تعالى ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله أتقاكم ) الحجرات 13 . تأتي هذه الآية الكريمة لتقر التنوع والتعدد القبلي فهناك شعوب وقبائل ولكن الهدف منها هنا هدف بناء وتواصل وتقارب ومعيار الأفضلية ليس بالنسب بل التقوى وهذا لعمري هو المقياس الحقيقي ومن أصدق من الله قيلاً !!
أتت هذه الاية الكريمة لتحد من بعض الظواهر السلبية للتعددية القبلية في جزيرة العرب أو تعدد الشعوب هنا وهناك , حيث وصلت العادات القبلية بالعرب قبل البعثة النبوية الى الذروة من حيث التفاخر بالأنساب وشن الحروب باسم القبيلة وانتقاص الآخرين لنسبهم وتقريب وتبعيد الناس قياساً على الحسب والنسب .
عندما انتشر نور الاسلام في جزيرة العرب وما جاورها هذب الانتماء القبلي فلم يسقطه أو يقبحه بل أبقاه وضبطه ببعض المعايير العادلة الصارمة التي طبقها سيد البشر على نفسه واقتدى به صفوة أمة محمد من الصحابة والتابعين .
ومن الشواهد على تفضيل معيار الدين على معيار النسب مواقف كثيرة سنورد بعض الشواهد التي تدعم فكرة المقال ومنها : تقريب الرسول صلى الله عليه وسلم لبلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وجعلهم من المقدمين في دولة الاسلام ولهم اسهامات وآراء حملت على محمل التقدير والتفضيل .
ومن ذلك حين شفع اسامه بن زيد في المرأة المخزومية التي سرقت فغضب صلى الله عليه وسلم لله وحده أن تنتهك حدوده وقال كلمته المشهورة : أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها !! هنا لا اعتبار للنسب مع الشريعة حين الاحتكام فالحكم لله .
وفي المقابل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحفظ للناس مقاماتهم وأقدارهم طالما لم تتعارض مع الشريعة .
فقد أقر كثير من رؤساء الاقوام على اقوامهم بعد اسلامهم كما اجزل العطاء للمؤلفة قلوبهم وهم نفر من سادة قريش بعد فتح مكه وغزوة حنين لما نظر لمكانتهم القبلية والاجتماعية قبل الاسلام أيقن أن الاسلام ان وقر في قلوبهم سيسلم باسلامهم خلق كثير . عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا .....الحديث)
وهاهو عليه السلام يذكر حلفاً حضره مع عمومته ويثني على ذلك الحلف بقوله ( لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت(
في العصر الحديث كان لبناء الدول المدنية تاثير قوي في تحجيم دور القبيلة , بعض الدول رأت في القبيلة نقيضاً للمدنية ومعطلاً للتنمية فحاولت بشتى السبل أن لا يكون للقبيلة والانتماء لها أي دور , وبعض الدول الأخرى لم تر ضرورة لإسقاط ثقافة محلية عاشت في رؤوس الناس مئات السنين فحاولت الموائمة بين الدولة المدنية والانتماءات القبلية وهناك من نجح هنا أوهناك ومن أخفق .
عندما يكون نفوذ القبيلة حاضراً الى درجة مساوية لنفوذ الدولة ومسؤوليها وتأثيرها في الناس أقوى فهذا خلل لا بد من تعديله والنموذج اليمني هنا أبرز المشاهد .
في النموذج السعودي الدولة اعترفت بالمكون القبلي وأبقت على شيوخ القبائل ومنحتهم بعض الامتيازات ودمجتهم بطريقة ايجابية في التنمية فهم يسيرون في خط مواز للتنظيمات الادارية ويدعمون بطريقة أو بأخرى سياسات الدولة الداخلية وهذا هو الجانب الايجابي في الموضوع .
الجانب السلبي في الموضوع يظهر بطرق متعددة لكن ابرزها في جوانب المحسوبية عندما يكون للانتماء القبلي دور في منح مزايا وظيفية لأناس دون آخرين أو التغاضي عن تطبيق النظام أو التساهل فيه لهذا السبب .
هذا بفضل الله داء تمت محاصرته وتحجيمه بفعل تنمية الوعي الديني والانتماء الوطني واجراءات الرقابة الجيدة ولكنه على كل حال لم يختف تماماً .
عندما انطلقت رحلة التنمية في كل مكان في المملكة احتاجت الى سواعد وطنية كثيرة ولم يكن مصدر او مسقط راس القادم للوظيفة ذي بال فالمعيار في الوظيفة المسهمة في خطط التنمية هو العمل وكفاءة الموظف لا علو حسبه ونسبه , عندها اتجه المواطنين الى مراكز الانشطة الناشئة في كل مكان فتشكلت خلطة فسيفسائية جميلة في مواقع العمل , أصبح القسم الواحد او الادارة الواحدة يشكل خارطة بشرية وطنية مصغرة تجمع فيه بين أبناء جميع المناطق دون تفضيل او حظوة لأحد على أحد , وكونت الشركات الرائدة مثل أرامكو وسابك وفروع الوزارات في كل مكان والوحدات العسكرية على أطراف المملكة نسخة جميلة من تلك الخارطة .
احتاجت المدن الى الانتشار تلبية للاحتياجات السكنية للقادمين من كل مكان , فتشكلت الاحياء في المدن على نمط ما يحدث في المنظمات الحكومية والشركات الاخرى ولكن بوتيرة أقل فالساكن يملك حرية اختيار الموقع وغالبا ما تجد في مدينة مثل الرياض وجده بدرجة اقل تجمعات في بعض الاحياء بشكل طاغي على اساس قبلي حتى وصفت بعض الحارات بأسماء القبائل ولكنها كانت على سبيل التفضيل لا الإلزام .
انتقل المكون القبلي من البوادي والقرى الى المدينة واصبح أفراد القبائل في المدن بمثابة ممثليات خدماتية واجتماعية لبقية القبيلة , فضيافة القادمين وتسجيلهم في الوظائف ومعالجة المرضى والقيام على السعي في مطالبات القبيلة واجبات أصيلة يجب تأديتها وعدم التنصل منها .
كان من المظاهر الطاغية في الاجتماعات القبلية ظاهرة الاحتفالات الشعبية مثل الزواجات والاحتفالات الخاصة بتخرج الابناء او حيازة منصب ذا قيمة او مناسبات الشفاء من داء عضال او حادث مروع .
كانت المشاركة شعار الجميع يلتقون في الأفراح ويتناصفون الغرم حتى لا يحمل أحد أفراد القبيلة اكثر مما يطيق .
في مرحلة ما من منتصف الثمانينات الميلادية بدأت العادات الشعبية تتراجع في ظل استغناء الناس وما افاء الله به عليهم او تحت تأثير المد المتدين حيناً أو الهروب من القيد الاجتماعي المتحكم حيناً آخر فألغيت الكثير من المناسبات القبلية الشعبية تحت ذريعة التكريه والتحريم والتعييب والاستغناء فترتب على ذلك انسحابات بالجملة من الانخراط في الأنشطة القبلية وربما كانت هناك شرائح عريضة تنتظر أي مبرر شرعي لإعلان الخروج من عباءة القبيلة .
دارت الدنيا دورتها وظهرت خدمات الاتصال الجديدة والشبكة العنكبوتية والقنوات التلفزيونية سهلة الاستثمار فوجد كثير من شرائح المجتمع وأصحاب المهارات الخاصة بيئات مناسبة للإنتاج وكانت القبيلة محور الاهتمام من جديد !!
ظهرت المنتديات اولاً ومواقع القبائل بمختلف تفريعاتها لنشر الشعر والعادات القبيلة التي اوشكت على الاندثار ودارت النقاشات الحامية حولها , وانبرت القنوات الفضائية لبث المناسبات الاجتماعية القبلية بما تحمله من قيم التفاخر والتفاضل في قوالب شعرية كان لها انتشار واسع وجمهور لا يستهان به .
بذلت جهود جبارة في سبيل توفير بيئة خصبة لتداول الفنون الشعبية والتراث ونظمت المسابقات الشعرية المليونية بين الشعار والذين بدورهم استهدفوا جمهور قبيلة كل منهم بهدف الحصول على الاصوات التي تبقيهم في دائرة الاهتمام .
انتشرت خدمات الكترونية من مزودي الاتصالات كرسائل نصية للإعلام عن الاخبار الرئيسية وكان للقبيلة حضور في هذا المجال فهذه الخدمة اصبحت المصدر الرسمي لإخبار أفرادها بمناسبات القبيلة والأخبار الضرورية .
عادت القبيلة كتيار قوي متدفق في حس ووجدان أبناءها كخلفية جميلة لكل الاحداث الاجتماعية فهي لم تعد قيداً ملزماً من جانب كما كانت قديماً لكنها كذلك ليست شيئاً يدعو على عدم الارتياح من جانب آخر .
كل تلك التطورات الجديدة تبلورت كمنابر اعلامية جديدة معلنة رحلة العودة للقبيلة .
بواسطة : سعد بن مغرم
 0  0  6572