بين جميل بن معمر و رون كانتي
بين جميل بن معمر و رون كانتي
بقلم / عاطف عبدالعزيز
الوطن ما سكنت إليه النفس و ارتاح له الفؤاد.
قالت الشاعرة ميسون بنت بحدل معبرةً عن حنينها لوطنها الأول:
لبيت تخفق الأرياح فيه ... أحب إلي من قصرٍ منيف
وقد اعتقد الإغريق قديماً أن لكل مكانٍ روحاً تأنس له نفس الإنسان وتألفه، فيطيب له المكوث في هذا المكان أو ذاك وتنفر نفسه من غيره. وقد لاتكون الغربة غربة الرحيل عن الأوطان فقط، فربما يحل الإنسان مكاناً ولكن تبقى روحه تواقةً لوطنٍ لها بعيد المنال.
رحم الله الشاعر جميل بن معمر (جميل بثينة) وهو يتسائل:
ألا ليتَ شعري، هلَ أبيتنّ ليلةً ... بوادي القُرى ؟ إني إذَنْ لَسعيد!
ولاغرابة أن يشتاق جميل بن معمر لموطنه وادي القرى، ولكن الدلالة هنا ليست في المكان الذي تاقت روح الشاعر إليه وإنما في المكان الذي تفتقت فيه قريحة الشاعر عن هذه القصيدة ألا وهو مصر العامرة وهو على ضفاف نهر النيل الجاري، ومع ذلك تمنى جميل أن يُكتب له ولو ليلة واحدة يعود فيها لوادي القرى، المكان الذي أنست له روحه وقرَنَ ذلك بمنتهى سعادته.
رون كانتي ليس شاعراً ولا فناناً، بل هو رجلٌ قدير من أواسط الناس، و قُدر له أن يحل في هذه المدينة منذ أربعون عاماً عندما كانت بلدةً صغيرة وادعة بين الجبال، فألفتها روحه وسكنت إليها نفسه وامتزجت فيها ذكرياته الأولى مع بساطة المكان وطمأنينة الطبيعة التي وإن كان صوتها خافتاً إلا أَنّ أذن رون كانتي المرهفة أصغت إلى هذا الصوت الخافت واستمعت إليه حتى سجل في ذاكرته ذكرى لا تنسى.
وبقي صدى هذه الذكرى للعقود الأربعة التالية، إلى أن عاد رون كانتي إلى المكان الذي سكنت إليه روحه، لعله يسمع صدى ذكرياته القديمة، أو كما قال هو: "لعل الذكريات تبقى معي لأربعين سنةً أخرى، أو آخذها معي إلى قبري."