×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

الجد ّ محمد بن علي ال مسلّم الشهري


سعيد بن علي بن محمد ال عباس الشهري .

إذا كان لكل مرحلة من مراحل التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل من أحداث ورجالات وأعلام وأن تصدق مقولة ( لكل زمان دولة ورجال ) فإن من الإنصاف أن يذكر بعض أولئك الرجال الذين يذكرون فتذكر أفعالهم وفاعليتهم في مجتمعهم فيّشاد بما قاموا به تطوعاً لخدمة الانسان والتخفيف من معاناته . دون الاغراق في المديح بل الحقيقة ولا غيرها فإن كان النقص حاصلاً فالزيادة غير واردة وهذا دأبنا فيما نقول ونكتب ونُضمر فأقل ما يجب عليّ من الوفاء أقول :

في زمن ليس بالبعيد وقبل وجود طب أو طبيب ولا ممرض أو تمريض ولا صيدلية أو صيدلاني وما أدركته قبل ما يزيد على الستين عاماً أذكر رجلاً حكيماً جمع بين الطب وسداد الرأي وقيادة القبيلة ألا وهو الشيخ محمد بن علي الشهري نائب قبيلته في زمنه ومقرهُ ( المنزل الأعلى ) آل مروّح فكان إلى جانب مشيخة القبيلة الأب للكبار والجدّ للصغار . المؤذّن القائم على شؤون المسجد الجامع . العابد الذي لا يفارق المسجد إلا لقضاء القليل من الوقت في أعمال الزراعة وشؤون القبيلة ومعه الامام والخطيب آنذاك الشيخ عبدالرحمن بن عاطف آل هماس الملقب ( قشيري ) إذ كان القائم بإمامة المصلين في الجُمع والجماعة والأعياد والتراويح والقيام والاستسقاء وصلاة الجنائز يرحمهم الله جميعاً .

والحديث هنا عن الرجل الإنسان والحكيم البارز والطبيب البارع محمد بن علي الذي لا نعرفه إلا بالجد محمد . لكنه كان يحضر إلى قريتنا أُناس لا نعرفهم من البادية أو القرى البعيدة ويسألوننا عن( محمد بن عمرة ) فنقول لهم لا نعرفه فإذا قالوا النائب أو الحكيم قلنا لهم الجد محمد بن علي حيث كان ذلك لقبه خارج قبيلته ولم يكن أي شخص يُعرف إلا باللقب أو المهنة كالفقيه فلان ، النائب ، الختّان أو بن جميل أو بن خلوفة أو بن جبرة وهكذا .

ولماذا كنا نقول له الجد محمد ؟؟
لأن الاباء يدعونه بالعم محمد فنقول لأعمام أبائنا أجداداً حتى وإن كانت ليست لقرابة ولكن للاحترام والتقدير الذي نحمله للكبير كما رُبيّنا عليه وكان السائد من قبلنا وفي جيلنا ومن كان بعدنا ثم بدأ التهاون .

فكان الجد محمد بن علي يرحمه الله المعلم لأفراد قبيلته والأقربون أقامة وكنا نجتمع في منزله فجر كل عيد بكامل اسرنا إذ كانت الاسرة حين ذاك لا تتعدى في الغالب ستة أشخاص . لكننا نمثل أسرة واحدة . والجد محمد هو كبيرها ورمزها والذي كان يغمرنا بالمحبة والكرم والعطف والجود بما يتيسر من خيرات البلد برغم قلة ذات اليد للجميع ولكن القلوب كانت عامرة بالمحبة والقناعة إذ كانت أهم ما يملكه الناس. وكان لا يمتلك من وسائل أو مقومات العلم والتعليم إلا الشيء اليسير لكنه يحمل مكتبة كبرى في ذهنه من السير والأمثال والأقوال إلى جانب تمتعه بقلب كبير يتسع للجميع يدعم ذلك كله الإيمان والصدق والثقة في قلبه وعقله والاقدام والحزم والجرأة في فعله . فكان الطبيب المعالج والجرّاح الحاذق ومجبّر الكسور والبيطري للثروات الحيوانية من جمال وأبقار إذ كانت أغلى ما يملكه الفلاح إلى جانب الزراعة إذ لا مصدر سواها للمعيشة فكان يقوم بعمل الجراحة بإجراء التعقيم ثم الغرز بخياطة الجروح الغائرة والطولية بوسائله البدائية التي كان رائدها التوكل على الله أولاً ثم الجرأة والأناة والاصرار والثقة . تلك الجروح التي تحدث جراء السقوط أو التعثر أو المشاجرات ويقوم بعلاج أو كيّ معظم الامراض الوبائية أو السارية ( كالصّفار ) وهو الالتهاب الكبدي أو استسقاء الكبد والطحال وهو وجود افرازات أو أكياس مائية أو دهنية وكان يستأصل ( القُطرة ) وهي الاصابة بلدغ الذبابة الصفراء المعروفة حالياً( باللشمانيا) ويوصي بعض الحالات من الكسور للذهاب إلى المجبّر ( المردا ) بآل مجادب يرحمه الله . إلى جانب ماذكر فهو المطهّر للفتيان ( الختّان ) والمعالج للتسمم الغذائي الذي يسمونه ( الخطر ) عن طريق الكي أو التداوي بالعسل والحلتيت والحبة السوداء والفلفل الاسود المسمى بالطبيب الأبكم . وكان يَفِدُ إليه الناس من مختلف قرى تنومة وتهامة والبادية للتطبب أو الاستشارة فقد خدم مجتمعه وأسدى إليه العناية والرعاية في زمن عزّ فيه الطب والدواء قبل أن تنشأ الخدمات الصحية البدائية أثناء حياته أو بعدها بقليل .

زد على ذلك قيامه باستئصال ( اللّاحس ) من عيون الجمال والأبقار وهو عبارة عن إلتهاب أو جرثومة مجسمة تؤذي المواشي وتسبب لها القلق وتمنعها من التركيز والابصار وعلاج ما يصاب منها بضعف أو فقدان البصر . كذلك استئصال ( العلقة ) من انوفها وهي دودة سريعة الحركة تغرس خرطومها في أنوف الماشية تمتص الدماء وتفقدها الاستقرار فتظل دائمة القلق والعصبية .

فلذلك تذكر أعمال وأفعال هذا الرجل وأمثاله لمن عاش أو عايش تلك الحقبة ولازال عالقاً بذاكرتي وأنا أدرس بالصف الثالث الابتدائي بالمدرسة الوحيدة بتنومة إنني طلبت من ابنه خطيب وإمام المسجد آنذاك وما زال عبدالله بن محمد بن علي أن يسمح لي بخطبة الجمعة وأنا صغير السن فكان ذلك . وكانت الخطبة مطبوعة من العهد العثماني وعندما وصلت إلى الدعاء للسلطان وعساكره أبدلتها بالدعاء لأئمة المسلمين وعامتهم في سائر البقاع وعند الانتهاء من الصلاة قال لي الجد محمد :
"ياولدي أن جدك الفقيه محمد بن عباس كان هو وابن هماس يعلموننا في صغرنا والأكبر منا أصول الفروض والاحاديث والسنن ولم تكن لديهم أدوات الكتابة فكانوا يحضرون لهم تراباً في المسجد أو حرمه ويكتبون عليه مبادئ الحروف والحساب ويملون الاحاديث وفي مساجد اخرى بتنومة كذلك فعساكم تشبهونهم فأنتوا من بيت علم ودين " وقد وضعتها في اذني ولم أنسها أبداً لكنني لم أصل للدرجة التي تمناها لي فما أوتيت من العلم إلا قليلاً .

وبالعودة إلى الجد الشيخ محمد بن علي فقد كان لنا قدوة حسنة ورمزاً للجد المثالي والطبيب المداوي . وقد خلف أبناء أفاضل كبيرهم عبدالله بن محمد بن علي بارك الله فيه وفي ذريته وهو إمام وخطيب المسجد الجامع بآل مروّح لأكثر من خمسين عاماً والقائم بالفرائض والسنن والمنقطع للعبادة ولازال أطال الله في عمره لما يحبه ويرضاه وخلّف أبناء صالحين على رأسهم الشيخ محمد بن عبدالله بن محمد بن علي ال مسلّم الشهري خريج الشريعة والحافظ لكتاب الله تعالى والعامل بحكمة وسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه . فهو الدّعوي المحبوب والخطيب القريب من القلوب والمربي الفاضل والموجه التربوي المعروف الذي لا يُجهل . والانسان المتواضع الزاهد الأوّاه المُتبتّل . بارك الله فيه ونفع به وفي اخوانه فما زال الجدّ محمد بن علي وعقبه يذكرون فتشكر سيرتهم فكان من حقهم علينا أن نذكر بعض الجوانب المضيئة لمن لقي ربه منهم ومن لازال حياً إذ أنه من أولويات حملة رسالة وأمانة الكتابة في التاريخ والادب والثقافة بشكل عام أن ينصفوا من كان أو مازال له بصمات في حياتنا
الماضية أو الحاضرة كأقل ما يستوجبه المقام وتُمليه أخلاق الكرام من حملة الاقلام لمن يستحق الثناء والعرفان والله الهادي والمستعان .


الـطـنـيني كـناية ولقباً .
تـنـومة
 0  0  3990