في رثاء سلطان ووالده
في رثاء سلطان ووالده
بقلم / علي بن غالب
عندما يكون الحديث عن شخص تعرفه، وعايشته لسنين، ثم فجأة يأتيك خبر نعيه عبر رسالة قصيرة لا يتجاوز أحرفها المائة حرف، فإنه بلا شك سيكون حديثاَ شجياً ومليئا بالأسى، وقد تكون انقطعت عن التواصل مع هذا الشخص بسبب الانغماس في مشاغل الدنيا، والانهماك في تربية الأبناء والوظيفة والبعد عنه، ولكنه لا يزال هناك حبل من الود متصل، يتم نفض الغبار عنه كلما التقيته في إجازة أو مناسبة أو عيد، ولكن عندما ينصرم هذا الحبل فيثير الكثير من غبار الذكريات فإنه بلا شك سيعكر عليك جزءا كبيراً من حياتك.
--
مرحلة الدراسة الثانوية مرحلة عاطفية ومن أقوى مراحل العمر عاطفة، لذلك فإن الشخص الذي له صحبة في المرحلة الثانوية ما يزال في الغالب يحتفظ معهم بأروع الذكريات، ومهما باعدت بينهم السنين إلا أنهم يسترجعون هذه الذكريات في كل مناسبة تجمعهم ببعض، وقد ربطتني بالأخ الفقيد سلطان بن عبدالله الشهري سنوات الدراسة الثانوية، والتي ما زلت أحتفظ بالكثير والكثير من تفاصيلها، ما بين مغامرات المرحلة، وجلسات المذاكرة الطويلة، تارة عندي في بيت الوالد، وتارة في بيت والده تغمد الله الجميع بواسع رحمته ، وما بين رحلات النزهة العفوية، وأمسيات السمر، التي ما تزال تفاصيل بعضها بل الكثير منها عالقة في الذهن حتى هذه اللحظة، لذلك فبالرغم من وفاة عدد من الزملاء ممن عرفتهم غفر الله للجميع - لكن طبيعة المرحلة جعلت لخبر وفاته - رحمه الله - مع والده في حادث السيارة الأسبوع الماضي وقعا كبيراَ ومؤثرا جدا في نفسي، ولقد كان رحمه الله في تلك المرحلة التي صحبته فيها يملك قدرا كبيرا من العواطف الإيمانية التي لم يكن يظهرها لغيري آنذاك، وما زال ذلكم الشريط الوعظي الذي كان لا يفتر من تشغيله وكان عن حسن الخاتمة يرن في أذني من مسجل سيارته، وكلما ألمحت له: أما تمل من هذا الشريط؟ فيقول يا علي، من أكثر الأشرطة الدينية تأثيرا في حياتي هذا الشريط! لدرجة أنه كان يردد مع الشيخ بعض القصص من كثرة سماعه وترداده لها.
--
من يعرف شخصيتين كشخصيتي "أبي سلطان وابنه سلطان"، ويعرف علاقتهما الحميمية ببعض، منذ تلك المرحلة العمرية، فإنه يتلعثم ويعجز عن التعبير، فعندما ترى أباً يمازح ابنه في المرحلة الثانوية على مرآى ومسمع من أقران الابن -الأمر الذي لم نكن لنعتد عليه- فإن هذا بلا شك ينبئ عن أسلوب في التربية عجيب، ونمط غير مألوف في التعامل مع الابن المراهق، وكان لهذا التعامل أثره الواضح في شخصية الابن بلا شك.
---
ودعنا سلطان ووالده، وكلنا حزن على فقدهما، وألسن الجموع التي حضرت موكب الصلاة عليهما ودفنهما تلهج بالدعاء لهما بالرحمة وواسع المغفرة، بل وحتى العمالة الذين كانوا يعملون معهما لم يتمالكوا أعينهم من الدموع والبكاء على قلبين طيبين استحقا هذه العبرات من هؤلاء العمالة.
ونظرا لوفاء سلطان فقد كان حقا على محبيه أن يكونوا أوفياء له، وقد أخبرني زملاؤه في مدرسته بما يثلج الصدر ويبهج القلب ويخفف المصاب من تفاعل الطلاب قبل المعلمين وتأثرهم من وفاة معلمهم رحمه الله، فكان أن تحول هذا التأثر وذلك الحزن إلى مشاريع وينابيع فجرها هؤلاء الطلاب الأوفياء، وفاءً لمعلمهم الفقيد، فكانت قصصا رائعة من الوفاء سطرها الجميع فرحم الله المتوفين وبارك في الطلاب والمعلمين النبلاء على هذه البادرة الإنسانية واللفتة الكريمة حيال زميلهم. وقبل هذه القصص الجليلة يحسن بي أن أذكر بعض أعمال الأخ سلطان التي أُخبرت بها من قبل بعض زملائه والمقربين منه حتى قبل وفاته:
- يقول أحد المشايخ الفضلاء ممن له باع في الرقية الشرعية، أن الأخ سلطان طلب منه أن يقرأ على امرأة وزوجها لم ينجبا منذ خمس سنوات، وتمت القراءة وفرج الله عن هذه الأسرة بإذنه تعالى ورزقا مولوداً.
- ثم إنه كان متابعا لحالة إحدى الأسر بتنومة وأخبر الشيخ بحاجتهم للدعم وبعض الأثاث من فرش وغسالة وفرن وثلاجة واستطاع بتوفيق الله ثم بحرصه ومتابعته جمع مبلغ يكفي لشراء هذا الأثاث لهم.
- قبل وفاته بثمانية أيام وجد رقم امرأة لها ثمانية أطفال وقد وضعت رقمها في أحد المواقع تطلب المساعدة، فاتصل بها وطلب منها إزالة الرقم وتواصل معها عن طريق أحد المحسنين للوقوف معها.
هذا غيض من فيض وهذا الذي بدا لنا من أخباره رحمه الله، ويكفي أنه كان ماشياً في بره بوالده عندما حصل لهما الحادث فأسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناته.
أما طلابه وزملاؤه فقد سطروا قصصا رائعة في التكافل لإجراء الصدقات عنه بعد موته ومما نقل إلي:
- قام الطلاب يوم الخميس أي بعد وفاته بيوم واحد بفرش مصلى المدرسة بالكامل بقيمة 2600ريال صدقة عنه.
- قاموا بشراء برادتي ماء على نيته، وقد ورد عن سعد بن عبادة . أن أمه ماتت. فقال: يا رسول الله : إن أمي ماتت أفأتصدق عنها ؟ قال : "نعم". قلت : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : "سقي الماء" قال الحسن : فتلك سقاية آل سعد بالمدينة . رواه أحمد والنسائي وغيرهما
- قاموا بإفطار جماعي للمدرسة في يومين على نيته.
- قاموا بتسيير رحلة عمرة لعشرة فلبينيين أسلموا حديثا صدقة عنه.
لم يكن هذا التفاعل ليكون لولا توفيق الله عز وجل ثم محبة الجميع لسلطان وأبيه، وقد كتبت هذا ليكون عزاءا لمن فقده بأن أبواب الخير مفتوحه، ومحبيهما كثر، ولئن أغلق دونهما باب العمل في هذه الحياة فباب الإحسان وإمضاء الخير عنهما باق مادام محبوهما والأوفياء لهما.
عزائي لوالدة الأخ سلطان، وقد علمت من تصبرها وتماسكها ما يعجب منه القاريء، وعزائي لزوجته ولأشقاء وشقيقات وأبناء وبنات الفقيدين وأقاربهما ومحبيهما .. أسأل الله أن يتجاوز عنهما وأن يرفع درجاتهما في عليين وأن يجمعنا بهم في الفردوس الأعلى.