تتابع الفتن
الخطبة الأولى
الحمد لله الملك الحق المبين يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وإليه المصير وأشهد أن محمدا عبدا لله ورسوله وصفيه وخليله أرسله رحمة للعالمين وقدوة للمؤمنين وحجة على الهالكين فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد
فاتقوا الله عباد الله ففي تقوى الله النجاة في الدنيا ( ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ) وفيها النجاة في الآخرة (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا )
عباد الله : لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتوالي الفتن في آخر الزمان حتى يصبح الحليم حيرانا
عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ انْطَلِقْ ، فَإِنِّي قَدْ أمرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ، قَالَ : فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ طَوِيلا قَائِمًا وَقَاعِدًا ثُمَّ قَالَ : لِيَهْنِكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يَتْبَعُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا ، الآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الأُولَى . يَا أَبَا مَوْيهِبَةَ : إِنِّي قَدْ أُعْطَيتُ خَزَائِنَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ، ثُمَّ خُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْجَنَّةِ ، وَبَيْنَ لِقَاء رَبِّي وَالْجَنَّةِ . فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، خَذْ خَزَائِنَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا بِالْجَنَّةِ فَقَالَ : لا وَاللَّهِ يَا أَبَا مَوْيهِبَةَ ، لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةَ عَلَى ذَلِكَ . فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَكَى بَعْدَ ذَلِكَ بَأَيَّامٍ
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ , صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قَالَ : " بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ " .
وعن عبدا لله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه قال وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسِي فقال ياابنَ حوالةَ! إذا رأيت الخلافةَ قد نزلت الأرضَ المقدسةَ فاعلمْ فقد دنتِ الزلازلُ والبلابلُ والأمورُ العظامُ والساعةُ يومئذٍ أقربُ من الناسِ من يدِي هذه إلى رأسِكَ
وأخبر عن شيء من علامات قرب الساعة ومنها إضاعة الأمانة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مجلسٍ يُحدِّثُ القومَ، جاءه أعرابيٌّ فقال : متى الساعةُ ؟ . فمضى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحدِّثُ، فقال بعضُ القومِ : سمِع ما قال فكَرِه ما قال . وقال بعضُهم : بل لم يَسمَعْ . حتى إذ قضى حديثَه قال : أينَ - أراه - السائلُ عن الساعةِ . قال : ها أنا يا رسولَ اللهِ، قال : فإذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظِرِ الساعةَ . قال : كيف إضاعتُها ؟ قال :إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِه فانتظِرِ الساعةَ
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله علليه وسلم إن بين يدي الساعة سنين خداعة ، يصدق فيها الكاذب ، و يكذب فيها الصادق ، و يؤتمن فيها الخائن ، و يخون فيها الأمين ، و ينطق فيها الرويبضة قيل : و ما الرويبضة قيل : المرء التافه يتكلم في أمر العامة
وبين صلى الله عليه وسلم أن من فتن آخر الزمان كثرة القتل حتى لايدري القاتل فيما قتل ولا المقتول فيما قتل
عباد الله وإنه مع تتابع الفتن وكثرتها وتطاول أعداء الله على دينه وعباده ينبغي أن نعلم عدة أمور : -
أولها : أن الأمر كله لله وأنه وحده الفعال لما يريد يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه لا معز لمن أذل ولا مذل لمن أعز ومن يهن الله فما له من مكرم يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ولا يكون إلا ما يريد أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشّاها ما غشى
ثانيا : يجب أن نعلم يقينا أن كل ما يحدث إنما هو بقضاء الله وقدره ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) وقال سبحانه (وكان أمر الله قدرا مقدورا ) وقال سبحانه ( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) وقال ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير )
وقال صلى الله عليه وسلم ( إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة )
فوالله ما أزهقت نفس ولا سالت قطرة دم إلا كان ذلك في الكتاب مسطورا على أن الإيمان بالقدر لا يعني القعود عن المدافعة
ثالثا : إن هذه الفتن فيها ابتلاء للمؤمنين وتمحيص لهم ( ألم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )
وقال تعالى ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأيكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب )
ولقد وصف الله حال المؤمنين يوم الأحزاب فقال ( إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا )
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ أو المؤمنةِ في نفسهِ ومالهِ وولدهِ حتى يلقَى اللهَ وما عليهِ من خطيئةٍ )
رابعا : في هذه الفتن يتبين عداوة الكافرين والمنافقين لأهل الإيمان وتزداد سيئاتهم نتيجة لطغيانهم وظلمهم وتنكيلهم بعباد الله أو قتلهم وتشريدهم قال تعالى ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما لهم عذاب أليم )
وقال صلى الله عليه وسلم ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته وقرأ قوله تعالى " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد )
وقال جل وعلا ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد )
وقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون )
خامسا : في مثل هذا الابتلاء يظهر الحق ويعلو ويزهق الباطل ويسفل ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق
لقد حاول المنافقون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم تبديل الحقائق وتقليب الأمور ففضحهم الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ( لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون )
وكم يلمع الباطل في وسائل الإعلام حتى يظنه الناس هو الحق
لقد تظاهر المنافقون بأعمال خيرية فبنوا مسجد الضرار لينفذوا من خلاله مآربهم فرد الله كيدهم وأبطل عملهم قال تعالى ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن إردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ) وتأمل كثرة الحلف التي هي منهجهم في الدفاع عن نواياهم السيئة ثم يفضح الله تلك النفوس الدنيئة
اللهم إنا نسألك العافية في الدين والدنيا والآخرة
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء وخاتم المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد
فإن هناك أمورا ينبغي عملها في هذه الفتن وأول هذه الأعمال التوبة إلى الله والعودة إليه وكثرة الاستغفار فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة والله تعالى قال ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) وقال ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم )
وكذلك مما ينبغي عمله التواصي بالحق والتواصي بالصبر قال تعالى (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )
والله تعالى يحفظ بالمصلحين الديار والقرى قال تعالى ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون )
وقد حقت لعنة الله على بني إسرائيل لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلعنهم نبيان من أنبيائهم على ذلك قال تعالى
( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكل من فعل فعلهم ناله من اللعنة مثل ما حل بهم
كذلك أيها الأخوة ينبغي التثبت عند سماع الأخبار قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) وقال سبحانه ( يا أ يها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ... )
كذلك ينبغي البعد عن مواطن الفتن قال صلى الله عليه وسلم ( من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات )
وينبغي الإكثار من الدعاء قال تعالى( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم
وقال سبحانه ( قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ) وكان صلى الله عليه وسلم يقول وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون
عباد الله صلوا وسلموا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم