×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

عرضة رحال الحجر(3)

ابو فراج
بواسطة : ابو فراج

بسم الله الرحمن الرحيم
عرضة رجال الحجر (3)
أصالة الموروث ورجولة الأداء
عقيد م/ محمد بن فراج بن سامرة
تعد عرضة بني شهر من أعرق وأجمل الألوان الشعبية في الجنوب بشكل عام وفي منطقة رجال الحجر بشكل خاص إلا أن بني شهر يتفوقون في مجال العرضة عن بقية المناطق الأخرى والعرضة كما هو معلوم هي لون من الألوان الحربية ولها دستور وقوانين مرعية لدى القبيلة . وأغراضها تنحصر في المدح والفخر والحماسة والهجاء والوصف ولا يتطرق فيها الشعراء للأغراض العاطفية على الإطلاق . وتقام في الاحتفالات الكبيرة لدى القبائل في مناسبات الصلح أو الزواج أو الطِّهار يشارك فيها أفراد القبيلة جميعا وعندما قلت أن لها دستور وقوانين فهي لابد أن تُعلَّم للصغار من الطفولة ويدربون عليها تدريب شبه عسكري بل ربما يكون أقوى من تدريب (المشاة) في العسكرية حيث لها حركات خاصة فهي تبدأ (بالمدقال) بعد أن تجتمع القبيلة بالكامل في مكان قريب من مقر الاحتفال .. ثم تتقدم لموقع الحفل بعرضة خفيفة وعند الاقتراب لموقع الحفل بأمتار بسيطة يبدأ (المدقال) وهو بداية العرضة ولا يقام المدقال إلا بوجود السلاح و الرمي بالبنادق القديمة (مقمّع) و (فتيل) وعلى صوت الزير والازلاف ولا يؤدى المدقال أو العرضة صامتة ويبدأ المدقال بدخول أعداد من العشرة إلى الخمسة عشر إلى عشرين حسب كثافة القبيلة وعدد أفرادها يدخلون إلى ميدان الحفل بشكل رتل منظم أو بصف منتظم بين كل واحد والآخر ما يقارب المتر والمزلِّف هو الذي يتحكم في حركاتهم إذ أنهم يؤدون الحركة على إيقاع الزير والازلاف والبنادق مرفوعة إلى الأعلى فوق الرأس باليد اليمنى ، وطبعا العموم مرتدين اللباس الأبيض ومحتزمين بالجنابي والصفوف والازهبة ومفردها زهاب وهو ما يخصص للمقاميع والفتايل من بارود وقمع في سير أو سبتة مخصوصة معلق على الكتف الأيسر أمام وخلف الصدر .

وكما قلنا يبدأ دخول العرضة في المدقال الواحد تلو الأخر في مجموعات ومنهم من (يَغْزِل) البندق فوق رأسه بحركة دائرية شبيه بالمروحة تماماً من بداية انطلاق العراضة حتى الاصطفاف للرمي وعندما تصل المجموعة إلى وسط (المرحَّب) أي "ميدان الحفل" تنتظر إشارة (القدوة) أي راس المجموعة وقائدها حيث لكل مجموعة قائد يقوم بإعطاء الإشارة برفع بندقيته بين يديه أمام وجهه ثم إلى أعلى قليلاً مع الالتفات للمجموعة ثم تطلق البنادق دفعة واحدة يقولون عنها (تعشيرة) دون تأخير ومن يتأخر يلام .. ثم تعود المجموعة من حيث أتت إلى الأمام بحركة دائرية وبنفس الحركة التي قَدِمت بها ويأتي بعدها أخرى في حركة متتابعة غير منفصلة وهكذا ..

والمدقال مستمر حركة ورمي على صوت الازيار والازلاف مع الصمت وهذا يعتبر دليل على قوة القبيلة واستعدادها ومهارة افرداها بين القبائل وطبعا يَدَّرس الشباب والصغار كيف يستخدمون السلاح غير الحي أي فقط (بارود) صوت بدون رصاص حيث لا يسمح لأي جاهل لا يعرف استخدامها بالدخول . يُعَّلم كيف يوزن البارود في اليد أو الكيلة وهي عبارة عن عبوة صغيرة من النحاس معلقة في الزهاب فيها القدر المعلوم (للكيلة) أي مقدار البارود .. ومن ثم وضع (القمع) وكذلك (ريز) البارود أي دكَّة بمدك خاص مع البندق حتى لا يتطاير أو يخرج (المريز) وان كان محبب حبوب يذوب إلى مسحوق ، أما الفتيل فلا تحتاج القمع بل تحتاج إلى (فتيلة) وهي خيوط من لب النخل أو السلب ملفوف حول الزناد بشكل مقنن وله ملقاط يوضع فيه راس الحبل وهو مولع بالنار .. يكوي الرامي به في (القف) وهو مكان القمع في المُقمَّع بدلاً من القمع في الفتيل . فتثور البندق ولكن تحتاج إلى محترف يتفنن في ذلك وهم كبار السن من الخبراء .. وكذلك في المدقال كما قلنا مقدمة أو بداية العرضة وعند سريانه يدخل (المزّقفة) وهم مجموعة من اثنين إلى ثلاثة حسب مساحة الساحة في وسط الميدان على نفس الإيقاع يردون إلى أمام المنصة ثم يعسكون الاتجاه إلى الخلف ثم يقومون برمي البنادق في السماء أي إلى أعلى كل واحد حسب قوته وتدريبه حيث لا يقوم بهذه الأدوار إلا الذين لديهم تدريب عالي كما هو في العسكرية تدريب (خاص) أو عرض خاص وليس كل شخص يقوم بهذه الأدوار حيث لو اسقط احدهم بندقيته كان ذلك عيبا كبيرا له ولقبيلته يعني انه ليس مدَّرب.. وكانت القبيلة فيما مضى تدرب أبنائها على ذلك بأخذ (المشبَّهات) أي أنواع من العصي والأخشاب المماثلة لحجم وثقل البنادق ويتم عمل بروفات عليها مستمرة قبل أن يتمرنون على البنادق الأصلية أو يظهرون في العرضات .

وأنا شخصيا تم تدريبي قبل سن البلوغ بهذا الشكل حتى أتقنت هذه الحركة .. ثم يأخذ سريان المدقال ما يقارب (40) إلى (45) دقيقة كله عرض واستعراض لمهارات القبيلة ، ثم يتوقف تماماً وتبدأ العرضة بعد أن يعود المجموعة إلى مكان التجمع ويتم تنظيمهم بسرعة فائقة إلى صف أو طابور متتالي خلف بعض مكونين من ثلاثة أو أربعة إلى خمسة أفراد حسب تعداد القبيلة وإذا كان العدد قليل أي في حدود (50) فرد يكون على شكل ثنائي وإذا كانوا (70) فردا يكونوا على شكل ثلاثي وما زاد على ذلك رباعي وخماسي .

وينتقل المزّلف من موقع المرَّحب أي مكان الاستقبال إلى مصاحبة المجموعة حتى وصولهم إلى مقر الاحتفال ويبقى الزير في موقع الاستقبال .. يقوم الشاعر بإعطاء بديعة أو قصيدة أو مهزوفة أو (مقصلفة) يفترض أن تكون قصيرة جداً في البداية أي شطرين شطر لبداية العرضة والشطر الآخر لنهايتها ويتقدمون بشكل رتل إلى مقر الحفل على صوت الإيقاعات وحينما يطلُّون على (المرحبة) وهم المستقبلين يرفعون المرحبين أيديهم ويقوم العراضة برد التحية ثم تبدأ سجالات العرضة حيث يأتي دور الشعراء لأن الشعراء ليس لهم دور في المدقال بل يأتي دورهم بعد نهاية المدقال مع بداية انطلاق العرضة وهذا الكلام كله يخص عرضة بني شهر التي تمتاز بالإيقاع خفيف البطء ليس بالسريع ولا البطيء وجمال الأداء وحسن الترتيب واللبس والتجهيز وفي مقدمة العرضة يكون مشايخ القبائل وأعيانها وكذلك كبار السن من رؤوس القبيلة و القبائل الأخرى التي تحب مشاركة القبيلة في احتفالها ..

والحقيقة أن جمال العرضة في الجنوب بشكل عام بدأ يختفي لعدم اعتناء الجيل الحاضر وقلة خبرتهم وعدم تدريبهم والاستهانة في هذه الموروثات بشكل محزن للغاية ومن يلاحظ هذه العرضة ويقارن بينها وبين عشرين عاما ماضية يتحسر فعلاً ويتضايق .. والعرضة تقوم على عدة ركائز أهمها وجود العدد من 50-300 فرد . ووجود الإيقاعات الزير والازلاف ووجود المزِّلف وهو الشخص الذي يتحكم في حركة العرضة هبوط وارتفاع والتفاف وتوقف .. كما أن (المزِّيف) يُعد من أهم ركائز العرضة وهو الشخص أو الأشخاص الذين يتحكمون في حركات العراضة وهم من 1-4 فرد وهم إما أن يكونون ثنائي أو رباعي متقابلين ..

وكذلك الشاعر من الركائز الأساسية والمهمة في عرضة بني شهر وكان لدى كل قبيلة شاعر والقبيلة التي ليس لها شاعر تعد ضعيفة وشاعر العرضة في الأزمان الماضية هو وزارة الأعلام للقبيلة وهو المتحدث الرسمي باسمها ويمكن أن يصلح أمور ويلهب أخرى .. لكن حتى الشعراء لدى قبائل رجال الحجر وبني شهر بالذات انقرضوا لعدم اهتمام الآباء بالإعداد لأبنائهم وتشجيع المواهب وتدريب وتشجيع الشباب ممن لديهم الاستعداد بعدما كانت بلاد بني شهر مركز عمالقة شعراء العرضة . اذكر لكم بعضا منهم للتعريف واغلبهم متوفين مثل الشاعر العملاق (ظافر بن جاري البكري) رحمه الله من بني بكر وسليمان بن مسعد من آل يانف ومزهر الثرباني من اثرب ومحمد بن سَعَيْدة من خشرم وجوهر الزيداني من آل زيدان والشاعر الكبير محمد بن لعدل من بني حسين تهامة ومحمد بن زاهر بن خيرة من (لملح) تهامة بني حسين وعلي بن نغاش من آل دحمان من تنومة وفراج بن سامره . وابن رقاد الليلحي ، وعبدالله المحوي البكري ، ومحمد بن علي الثابتي ، ومحمد علي العبسي ، ومشاطا الحسيني ، وعبدالله بن عمير ، وصالح بن حمدان ، وابن الشايب الاثربي ، وغيرهم رحمهم الله جميعا .

هؤلاء باختصار كانوا عمالقة شعر العرضة في منطقة بني شهر من بداية القرن الثالث عشر وهناك أسماء لا أتذكرها الآن .. وحالياً للأسف لم نعد نسمع بشعراء بني شهر للعرضة إلا نادرا.. وقد سبق وان اعتزلت شعر العرضة قبل خمسة عشر عاما ولكنني عدت مجبرا خاصة مع قبيلتي لعدم وجود البديل وظهر الأخ الشاعر علي السالمي من تهامة أتمنى له التوفيق فهو ما يزال في مقتبل العمر ولديه الكثير ولكن لا احد آخر نشاهده في الساحة الآن والسبب يسأل عنه القبائل الذين أهملوا موروثهم وتراثهم وعاداتهم الأصيلة وفنونهم وأصبحوا متفرجين .. ثم إذا أقام احدهم حفلاً قام باستقدام الشعراء من خارج نطاق قبيلته من قبائل بعيدة لعدم وجود شعراء لديهم .. لذلك أصبح شعر العرضة في عصرنا الحاضر مجال للتكسب والربح وأصبح بيع وشراء (مدح) بالفلوس ومهاترات في اغلب الأحيان .. ومعاني ركيكة .. وهو ما لم يكن في السابق فمن يراجع شعر الشعراء الذين ذكرتهم في التعريف يُذهل تماماً في الفرق في استخدام الجناس والشقر وغزارة الشعر وقوة المعاني المرسومة وسرعة البديهة والخبرة في شؤون الحياة رغم قلة التعليم وحالة الناس في ذلك الوقت وعدم توفر وسائل المواصلات إلا أنهم صنعوا ما يعجز شعراء العصر الحالي عن صنعه ، بل أني أتحدى أن يصلوا إلى ربع أو جزء من مستوى أولئك الشعراء .. فهل تتدارك القبائل هذا الإهمال ؟ على أي حال سوف أتكلم عن مثل هذه المواضيع في مؤلف آخر بإذن الله تعالى حول (أحوال التراث والموروثات وفنون) رجال الحجر بإذن الله .

بواسطة : ابو فراج
 0  0  5084