عرضة رجال الحجر والأمراض الخطيرة (2)
عرضة رجال الحجر والأمراض الخطيرة (2)
لقد سررت أثناء عرضي لموضوع عرضة رجال الحجر وما يشوبها من مخالفات ليس لها أصل سررت من التعليقات الواقعية التي طرحت واشكر أصحابها لغيرتهم على الموروث الذي هو هويتنا بين الشعوب وساءني جدا بعض العقول التي لاينفع معها تعديل أو تبديل ومن يفتون بغير علم حتى أنهم ضللوا كثيرا من شبابنا وانسوهم موروثاتهم حتى تلقفوا موروثات ليست لنا وليس لنا بها علاقة بالدين ولا بأصولنا وتراثنا لان أمثال هؤلاء الذين هم أدعياء العلم الشرعي هم الذين لم يحتزموا بالجنابي الاشبيل والنافعي وليس لديهم دراية بالمقاميع والفتايل وصنع البارود واللبس الحربي .. إذ أن عرضة بني شهر حربية خالصة ليست فيها مجال لما أفتوا به من الفتاوي بغير علم وليست محرمة وأتحدى من يأتي بنص بتحريمها فالحلال بين والحرام بين ولكن أخشى على شبابنا من أمثال هؤلاء الذين يحاولون إفساد الموروث الرجولي بهذه التداخلات واجد نفسي في هذه التعقيب مضطر لإعادة ما أوردته في مقدمة ديواني (ألوان شعبية من بلاد بني شهر ) ففيه تبيان لكثير من الأمور المتعلقة بالعرضة وسوف اتبعه بتفصيل آخر في مقال ثالث بإذن الله وعلى الله نتوكل ونقول :
بسم الله والحمد لله و الصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
إن الكتابة عن التاريخ والتراث والموروثات تعتبر عملية متماثلة يخضع فيها الباحث أو الكاتب أو الشاعر إلى شروط ومقاييس ذات دلالات خاصة معروفة للجميع غير أن الكتابة عن الفنون والألحان والأصوات يعد أمر شبه مستحيل .. إلا لمن يملك أبجديات محاور المثلث الثلاثة . وقد بدأت قصتي مع تلك المحاور منذ طفولتي حيث كان والدي رحمه الله الشيخ فراج بن سامره موسوعة في مجال التراث والموروثات وشاعر يجيد عموم الألوان الجنوبية وخبير متمرس رسخ ركائز هذه المحاور في ذهني منذ الصغر بالرغم من تقصيري في إظهار ما علمني إياه .. لظروفٍ مرَّت بي لم تكن مساعدة في رصد كل الأصوات الماضية . والحقيقة أنني في هذه المقدمة وجدت نفسي ادخل في تعريفات كثيرة فهل اسمي ما قدمته (فنون شعبية) أم (موروثات شعبية) أم (مأثورات شعبية) باعتبار أن هذا المصطلح العربي الذي اقّره مجمع اللغة العربية كترجمة عربية دقيقة للمصطلح الإنجليزي ( FLOK LORE) الذي شاع استخدامه منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد أن استخدمه العالم الإنجليزي (سيرجون وليم توفر) في مقال نشره في 22 أغسطس عام 1846م في مجلة ذي انثيوم الإنجليزية للدلالة على مواد المأثورات الشعبية في مجاليها الأدبي والمادي وفي إطار من العادات والتقاليد والمعتقد الديني . أم هل اسميه (بين الزير والازلاف) فقلت أن يغضب مني المتشددين مع أنني اطلعت على فتوى للشيخ / عبدالمحسن العبيكان منشور نصها في جريدة الوطن (العدد 1579) من يوم الثلاثاء 15/12/1425هـ ، حول الجدل الذي يثيره البعض عن استخدام أدوات خاصة بتأدية الألعاب الشعبية في الأفراح والمناسبات العامة ، حيث أصدر فتوى تجيز استخدام الدف والطبل المعروفة لدينا في الجنوب بـ(الزير والزلفة) و 99% من ألوان الجنوب التراثية تؤدى بين الزير والازلاف وبدونها ليس لها معنى ، إلا أن بعض المتشددين يقولون بعدم جواز استخدامها ، ولذلك قام الشيخ / العبيكان جزاه الله خير بتوزيع هذه الفتوى على بعض المواطنين في محافظة محايل عسير .. حسب ما ورد في الصحيفة ، حيث أورد فيها مجموعة كبيرة من الأدلة الشرعية التي تجيز هذا الأمر منها " ما رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " انه كان يأمر بضرب الدف في النكاح "وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم " كان يستمع لعائشة رضي الله عنها والجواري اللاتي كن يجتمعن عندها ويضربن بالدف وينشدن الأشعار ، وكان الحبشة يلعبون بالحراب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إليهم كما في صحيح مسلم والبخاري ، قال الحافظ : وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين "وأضافت الفتوى ، وروى الطبراني في المعجم الكبير 22/201 أن هبّار زوّج ابنته وضُرب في عرسها بالكَبَر والغربال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اشيدو النكاح اشيدو النكاح ، هذا نكاح لاسفاح) حسَّنه الألباني في صحيح الجامع والسلسلة الصحيحة 1463، والكَبَر : الطبل وقيل الطبل ذو الرأسين أ . هـ ( تاج العروس 14/10 ولسان العرب 5/130).
وأضاف العبيكان في فتواه ، ومن القواعد المقررة في الشريعة أن الأصل في العادات الإباحة إلا ما دل دليل على تحريمه وبما أن النصوص المتقدمة دالة على إباحة الدف والطبل في المناسبات كالعيدين والختان والنكاح وقدوم الغائب ولم يخص النساء بذلك والأصل الاشتراك وقد ذكر الحنابلة أن الإمام احمد أباح الطبل في الحرب وابن عقيا استحبه ، وقد كان الناس من زمن طويل وهم يقرُّون من يقيم العرضات في المناسبات ولم ينكر ذلك العلماء الربَّانيون الذين كانوا لا يسكتون عن منكر .. وقد سالت سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله ـ عن الطبل للرجال وحكم العرضة فأجابني بقوله (الأصل الحل ولم يرد دليل على التحريم وهناك حديث أباح الدف والطبل ولعلك تبحث عن سنده ، والكلام هنا للشيخ العبيكان وانتهى كلام الشيخ ـ رحمه الله ـ وأفتى أيضا فضيلة الشيخ محمد بن عثيميين رحمه الله بجواز العرضة وحضر عرضه أقيمت في القصيم ، والذي أحاول شرحه في هذه المقدمة أن ديننا دين يسر وليس دين تشدد أو غلو والمأثورات الشعبية والموروثات جزء لا يتجزأ من تاريخنا . ولكي نعود لأول باب في هذا الديوان والذي يتكلم عن عرضة (بني شهر) التي هي جزء من رجال الحجر (بنو عمرو وبنو شهر وبللّسمر وبلّلحمر) فنجد أن عرضة بني شهر حربية سواء كان ذلك في (المدقال) (مقدمة العرضة) أو العرضة والتي كانت وما زالت دليل على قوة القبيلة أو ضعفها إذ أن كل قبيلة فيها تستعرض كل ما لديها من قوة ومن شباب وعزم وامكانات لتظهر أمام القبائل الأخرى بمظهر الند المخيف حيث كانت القبائل في السابق قبل العهد الميمون (الحكم السعودي) تعيش حالة من الفوضى والحروب الطاحنة بين القبائل ، والقبيلة الضعيفة تذهب طُعم للقوية .. وفي (الدَّمة) كان الاستعراض(نهاية العرضة) بعد نهاية الغزو على رقصة (الدَّمة) والمنشد يتحدث بما كسبته القبيلة وما حققته من الغزو . كذلك كان الشاعر هو الترمومتر للقبيلة ، ووزير الإعلام والمتحدث الرسمي ، وكان شعراء العرضة في الماضي يصلحون بين قبائل ويشبُّون الحروب متى أرادو . وكانت القبيلة التي بلا شاعر تعد قبيلة ضعيفة في نظر الأخرى ، كما كانوا يقومون باختبار الشاعر قبل أن يقدموه حتى يتأكدو من فراسته ومعرفته بالقبائل وتمكنه من الموهبة والإدراك والمعرفة عندها يقبلون ما يقول ويرفضون ما يرفض .. والحقيقة أن عرضة بني شهر أو رجال الحجر لا يمكن إقامتها بدون الإيقاعات (الزير والازلاف) حيث أن المزِّلف هو المتحكم في حركات الأقدام والخطوات برتم معين وحركة محسوبة أشرت إليها في مقدمتي عن العرضة .. كما أن المدقال (اختفى) نظراً لمنع الرماية مع أن المدقال وهو مقدمة العرضة في بني شهر يؤدى بالبنادق القديمة (الفتايل) و(المقاميع) وهي صوتية فقط وليس لها أي تأثير مثل السلاح الحي وتستخدم برشاقة وبفن يتدرب عليها أبناء القبيلة منذ الصغر وكذلك يقومون ببعض الحركات الصعبة مثل (الزقاف) وهو رمي البنادق في الجو مسافات عالية واستقبالها بكل مهارة ومن ثم الرمي .. وهي حركات يجري التدريب عليها كما هو في العسكرية .. كما أن طابور العرضة في بني شهر يشابه طوابير الاستعراضات الخاصة العسكرية كما أن رتم العرضة متوازن ليس بالسريع ولا بالبطيء ، كما في غامد وزهران أو شهران أو بيشة أو عسير ويتم على إيقاعات الزير والازلاف .
ويتم التدريب عليها .. حيث يعاب على أي فرد دخولها دون معرفة لها من هنا يتبين لنا أهمية الإيقاعات في جميع الألوان في (منطقة بني شهر ) وغيرها وأنها هي التي تضفي طابع الجمال والكمال على كل حركات الفنون الشعبية الجنوبية فلماذا يحاول البعض طمس تاريخنا وموروثاتنا هل لأنهم لا يستطيعون القيام بها ولم يشاركوا فيها أم ليس لديهم أي امكانات لتأديتها ؟ فلماذا يحاولون إلغاءها وطمس معالم التراث وحضارة الآباء والأجداد .. أليس ذلك تنكر لماضينا وهويتنا واصالتنا . أليس المثل يقول (من لا ماضي له لا حاضر له) والحكيم الصيني الأول (كونفوشيوس) يقول (ارني غناء امة لاريك مدى حضارتها) مع العلم انه يوجد في المملكة العربية السعودية أكثر من مائة وخمسون لون من ألوان التراث اغلبها في الجنوب تكاد تندثر الواحد بعد الآخر نتيجة الإهمال والتغافل والتكاسل وعدم العناية والانسياق وراء موروثات الشعوب الأخرى وتقليدها خاصة بعد الامتحان الذي أوقعتنا فيه الفضائيات وما يقدم فيها من إسفاف وتهريج وخلاعة ليست من تراثنا ولا من عاداتنا ولا من تقاليدنا ، واني هنا إذ اهمس في إذن كل متشدد معارض للفنون والموروثات والتراث الوطني فأقول (إذا لم ننشغل بتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا .. سوف ننشغل بعادات وموروثات مستقدمة لا تليق بنا ولا بشبابنا ولا بمجتمعاتنا ..) لذلك تعالوا نيسر ولا نعسر نبشر ولا ننفر .. تعالوا لنقول لجيلنا الحاضر كيف يعيش آبائهم وأجدادهم .. وما هي آثارهم وموروثاتهم وعاداتهم وتقاليدهم فما كان منها جميلاً فلنحافظ عليه وننميه في نفوسهم وما كان سيئا نستبعده فليس إلزاماً أن نأخذ كل الإرث بمساوئه بل نحسن ونجمِّل ما نراه مختلف حتى يصير مؤتلف أو مقبول .. كما نحافظ على كل عادة جميلة وننبذ ما كان عكس ذلك واغلب ما كان يقوم به الآباء والأجداد ثري بكل العطاء والجمال والرجولة ، والتراث الجنوبي غني بكل ما هو جميل وأين ما وجد الإنسان الواعي وجد الإبداع وتختلف ما هيّة هذا الوجود وقَدَرِه بحسب ما يعيشه الإنسان من حضارة وما يملكه من ثقافة .
فما يعد إبداعاً لدى أمة قد يكون عند غيرها شيئا عادياً ولا تكمن الصعوبة في كيفية الوصول إلى الإبداع فقط ، إنما تتجاوز ذلك إلى كيفية الاستمرار فيه ، وتنميته أو توليده منه ، وهذا ليس بالأمر السهل .. إذ لا يتمكن منه إلا النادر المتميز بمواهبه .والذي يضع نفسه حيث يجب أن تكون .. والإبداع بمعناه العام لا يقتصر على فن دون فن ولا موروث دون آخر.. فهو في العلوم عامة وفي الصناعة والتجارة وفي الأدب بكل أشكاله وفروعه . وأعود للعرضة في بني شهر والجنوب بشكل عام حيث لا يجد من يقرا بعض أشعارها انسجام في اغلب الأحيان ولكن حينما يسمعها مؤداه يعرف ويدرك فعلاً أنها جميلة وثرية بمفرداتها ، عميقة في أصلها وكما أسلفت فقد كانت العرضة إلى سنوات قريبة رمزاً من رموز تراحم القبيلة وانسجامها وربما ربط أفرادها بين النجاح في تأدية هذه الرقصة الرائعة والفلاح في غيرها من أمور ذات شان عظيم .. ثم أنها تأتي مشحونة بالحماس والبهجة والإتقان وفي منطقة رجال الحجر بالذات تتسم بالهدوء غير المخل والتشكل المثير للإعجاب .. يلمس المشاهد اليوم بعض بقايا ما ذهبت إليه في مواقع مختلفة من المنطقة إذ أن (المخيل) (المشاهد) في الماضي القريب كان يأتي إلى العرضة من مناطق بعيدة مشياً على الأقدام تمتع بها كلها ، أي بما يقال فيها من شعر خاصة تلك الأشعار التي كانت تتسم بالقوة والتعجيز وأمور أخرى كثيرة سأستعرضها بإذن الله في مقالة ثالثة ودمتم بخير .
عقيد م / محمد بن فراج بن سامره الشهري