موت النخبة: فهل يعيش الجمهور؟
د. فايز بن عبدالله الشهري
التقيتُ في ضيافة صديق قبل أكثر من عام بالمؤرخ البريطاني Robert Lacey صاحب كتاب "Inside the Kingdom". وقتها كانت مقدمات الأزمة السوريّة حديث الناس، وكان المؤرخ الشهير يحلّل بعض أسباب سرعة انهيار الانظمة العربيّة في تونس ومصر وربما ليبيا قريبا (حينها). وفجأة سأل "روبرت ليسي" الحاضرين عن رأيهم في المدة التي تحتاجها الأزمة السوريّة للانفراج فكانت الحسابات لمعظم الحاضرين بالأشهر. وحينما أتى دوري قلت ربما سننتظر سنة او سنتين فرد بسرعة: أتفق معك ولكن قل لي لماذا؟ فأجبته بأسباب منها تعقّد تركيبة النخب (الثقافيّة، السياسيّة، الاقتصاديّة، العسكريّة) في سورية، وتجّذر ثقافة التعنّت باسم "الممانعة" "والتصدّي" في الفكر المؤسسي للبعث والمؤسسة السياسيّة والعسكريّة .
واليوم والأزمة السوريّة تدخل طريق اللاعودة منذ نشوبها في مارس 2011م أستذكر بعض ما دار من نقاش ذلك المساء عن دور النخب في الحوار الوطني في المجتمعات العربية، ومدى فاعليتهم في تفكيك مصادر الأزمات واستباق اندلاع الصراعات. والملاحظ في العقدين الأخيرين ضعف دور النخب كمعالج حضاري لرواج ثقافة الصراع والعنف والتطرّف. ولكن كون النُخب العربيّة ظلّت تحتكر - حتى وقت قريب - مفهوم الحوار وثماره فلم يتجاوز المفهوم حدود حوار النُخبة مع النُخبة ضمن دوائر ضيّقة تقتات على أيديولوجيات مستعارة أو تشكيلات فكريّة نفعية لم تكن تهتم كثيرا بالتواصل مع عامة الجمهور الا من باب الوصاية والتندّر.
ومن هنا ترسّخت علاقة سلبيّة منزوعة الثقة بين الجمهور والنُخبة في العالم العربي حتى أصبح التناقض من خصائص النُخب ذاتها ناهيك عن فشل هذه النُخب في مشاريع استنهاض المجتمع العربي وتأمين انطلاقه الحضاري كبقيّة أمم الأرض. ولو أمكن تشخيص مرتكزات اضطراب العلاقة والأدوار بين النُخبة والجمهور لوجدنا من بينها ما يتعلّق بدور وغاية النُخبة كما نراه في عدم وضوح الأدوار والتطلّعات مع شيء من انتهازيّة النُخب تحت لافتة حقوق الجماهير.
ومن جهة أخرى مثّلت الوصاية التي فرضتها النُخبة العربيّة على جمهور الناس قضيّة مهيمنة على مسار ولون علاقة المجتمع بنفسه، وعلاقته بالآخر. فمن تناقضات بعض المحسوبين على النُخبة العربية في تسويق "ما ينبغي أن يكون" مثلا أنّها تظهر مع الشيء وضده تبعاً لبوصلة الارتزاق والمصلحة الذاتية . فهي تتّهم من تقاطعت مصالحه وظروفه مع الغرب بالعمالة والتخلّف او حتى (عند معسكر آخر) التغريب وضياع الهويّة. وعلى الضفة الأخرى كانت العلاقة مع الفكر الشرقي (الاشتراكي- الشيوعي) عند رموز عربيّة بارزة "طليعة" التغيير نحو فكر "تقدّمي" شرط نجاحه عندهم استئصال الجذور عن القيم الدينيّة والاجتماعيّة.
ولم يلبث الجمهور العربي طويلا حتى رأى سوء مصير كل من ركب الحمار "التقدمي" الأعرج، وتهافُت حجج من صوروا الغرب بالشيطان الأكبر أمام النفعيّة و"ضرورات" المصلحة السياسية . ولعل هذا يفسر في جزء منه سر توجه الجماهير العربيّة الى ميادين الاحتجاج دون اعتبار لحسابات "النخب" التقليديّة وتلوّنها.
نعم فشلت النخب العربية في القيادة فهل ينجح الجمهور؟
*مسارات:
قال ومضى: عجبي لمن يحتمي (بحكمة) الصمت (وقت واجب) الكلام.