×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

رسالة إلى روح أمي

رسالة إلى روح أمي
( رحمها الله تعالى وغفر لها )
المتوفاة فجر يوم السبت الموافق 14 / 10 / 1433هـ
بقلم الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية المشارك في كلية التربية بجامعة الملك خالد في أبها
E.mail:abo_arrad@hotmail.com
=-=-=




= يا من أوصانا الله بشكره وشكرها في كتابه العظيم .
= يا من حملتنا في بطنها أجنةً ، وربتنا في حجرها صغارًا .
= يا من كانت ولا تزال أحق الناس ببِرنا وحُسن صحـابتنا .
= يا من أمرنا الله تعالى أن نخفض لها جناح الذل من الرحمة .
= يا من فقدنا بفقدها أمًا رحيمةً ، وقلبًا حنونًا ، وبابًا من أبواب الجنة .

عليك سلام الله ورحمته وبركاته ، أما بعد ؛
فأكتب لكِ هذه الرسالة بمداد القلم الممزوج بدموع الحُزن ، والمختلط بمشاعر الألم الذي لازمني وكافة إخواني وأخواتي وأبناءنا وبناتنا منذ أن فوجئنا بخبر وفاتُك وانتقالك - بإذن الله تعالى - إلى رحمة أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين جل في عُلاه . وما كتابتي لهذه الأسطر أصالةً عن نفسي ونيابةً عن بقية الأهل إلاّ طمعًا في أن تعمل - ولو يسيرًا - على تهدئة لوعة الفؤاد بعد أن حال بيننا وبينك عالم البرزخ ؛ ولتكون ردًا متواضعًا لما أسديتيه إلينا جميعًا من الجميل ، واعترافًامنّا بما نحمله لكِ من الفضل الكبير الذي لن نفيكِ حقه إلاَّ بفضل الله ورحمته، وفيها نقول مُستعينين بالله وحده :
= غفر الله لك يا والدتنا الغالية ، وتجاوز عنك يا أُمنا الحبيبة ، وتغمدك بواسع رحمته التي وسعت كل شيء ، وجزاك الله عنا خير الجزاء يا من كُنت لنا بحق الأم العطوف ، والصدر الحنون ، والملاذ الآمن ، والناصح الأمين ، والموجِّه الكريم . والله نسأل أن يُحسن عزاءنا، وأن يُعظِّم أجرنا ، وأن يجبر مصابنا العظيم فيكِ ، وأن يُلهمنا الصبر على فقدك ، وأن يجعلنا من الصابرين المحتسبين الذين قال الله تعالى فيهم : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)( سورة البقرة: 155 -157) .
= رحمك الله يا من كُنا ندعو لها في حياتها بأن يحفظها الله تعالى وأن يُمتعها بالصحة والعافية ، وها هي الأيام تمُر سريعةً ليتغير الحال فنبتهل إلى الله وندعوه أن يغفر لها ذنبها ، وأن يرحم ضعفها ، وأن يتجاوز عن تقصيرها ، وأن يُكرم نزلها بعد أن رحلت من عالمنا لتكون بإذن الله في جوار ربٍ كريمٍ ، ورحمانٍ رحيمٍ ، ترجو فضله وإحسانه ، وتطمع في رحمته وغفرانه .
= أكرم الله نزُلك يا من كنتِ لنا الوالد الرحيم بعد فقدنا لوالدنا الغالي منذ أكثر من ست سنواتٍ وثـمانية أشهر كنتِ حريصةً خلالها على تعويضنا عن فقده وغيابه بحُسن رعايتك وجميل تدبيرك وكريم عنايتك ، وها نحن اليوم قدأُصبنا بمصيبة رحيلك من عالمنا ، وغيابك عن واقعنا حتى صدق في حال كل واحدٍ منا قول الشاعر :
صبتْ عليَّ مصائبٌ لو أنـها ... صَبت على الأيامِ صِرن لياليـا

= عفا الله عنك يا من أكرمنا الله وإياكِ بأن ختم لك حياتك الطيبة بخاتمةٍ نحسبها - بإذن الله تعالى - حسنةً يوم أن أسلمت الروح بهدوءٍ وصمتٍ ، وأنت في فراشك وبين أبنائكِ دونما مرضٍ أو وجعٍ أو ألمٍ أو معاناةٍ أو تنقُلٍ بين المستشفيات ؛ فكان في ذلك دلالةٌ واضحةٌ على لطف الخالق ( جل في عُلاه ) بنا وبكِ ، وكريم تقديره ولطيف تدبيره الذي لا نملك معه إلاّ أن نرفع أكفنا حامدين وشاكرين وراضين بما قضاه ربنا وقدَّره ، مُرددين قولنا : ( الحمد لله على ما قضى وقدَّر ، والحمد لله على ما أعطى وما أخذ ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ) .

لَعَمْرِي لَقَدْ غَالَ الرَّدَى مَنْ أُحِبُّهُ .... وَكـانَ بـودي أنْ أمــوتَ وَ يَسْـــلَما
وَأيُّ حـيــاة ٍ بعـدَ أمًّ فقــدتهـا.... كَمَا يفْقِدُ الْمَرْءُ الزُّلاَلَ عَلَى الظَّمَا

= تجاوز الله عنك يا من توافد الناس من كل مكانٍ لتقديم سُنة العزاء فيكِ ، وانهالت الاتصالات من هنا وهناك للمواساة بعباراتٍ حزينةٍ وألسنةٍ طيبةٍ تلهج بالدعاء الصالح لكِ ، والترحم عليكِ ؛ فكان في ذلك سلوةً لنا وتخفيفٌ علينا ، لاسيما وأنه قد تأكد لنا بما لا يدعُ مجالاً للشك أنكِ لم تكوني أُمًا لنا وحدنا ، وإنما كنتِ أمًا وأُختًا للكثيرين ممن عرفوكِ وأحبوكٍ واحترموك في حياتك ، فلما سمعوا بنبأ وفاتك حزنت لفقدك نفوسهم ، وبكتكِ أعينهم ، وترحموا عليك ، ودعت لكٍ ألسنتهم بصالح الدعاء ولسان حالهم يقول :

ليهنك ما رأينا من شهودٍ .... بـأرض الله كلهم ثناء

= رحمك الله يا من سنفتقد استقبالكِ ( الحنون ) لمن تعلمين بقدومـه منَّا فتكونيـن ( مهما طال الوقت ) في الانتظار والترقب حتى تسعدين بإطلالته ووصوله ، وعندها تنطلق عبارات الترحيب الصادقة ، وترتسم على وجهك الابتسامة العريضة ، وتظهر علامات البشر والبشاشة، ولسان حالك يُردد قول الشاعر :

يا خير ضيف أتـى بالبـشر والمـدد .... أهلا وسهلا وترحيبًا بلا عدد

= غفر الله لكِ يا من كنتِ تودعين المسافر منا بأجمل العبارات وصادق الدعوات ، وتأبين إلاّ مرافقته حتى يغيب عن الأنظار ، ثم لا تلبثين أن تتابعي الاتصال به للاطمئنان عليه والسؤال عنه مرةً بعد مرة حتى يتأكد لكِ أنه وصل بسلامة الله وحفظه إلى المكان الذي يريد الوصول إليه .

= جزاك الله خيرًا يا من كُنت عونًا لنا على طاعة الله سبحانه والتقرب إليه بالأعمال الصالحة ونحن نراك تُحافظين ( ما استطعتِ ) على صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع ، وأداء ما تيسر من الركعات في قيام الليل ، والمحافظة على الوتر قبل المنام ، وأداء ركعتي الضُحى ، وحرصك على التصدق ولو باليسير ، إلى غير ذلك من الطاعات القولية والعملية التي نسأل الله تعالى أن يتقبله منكِ ، وأن يجعله في موازين الحسنات ، إنه على كل شيءٍ قدير .

= عفا الله عنكِ يا من كنَّا نتسابق إلى بِركِ ونتنافسُ على كسب رضاكِ ، طمعًا في رد الجميل إليكِ ، والقيام بشيءٍ من الواجب المفروض علينا تجاهكٍ ، والله تعالى نسأل أن يوفقنا للاستمرار في تقديم ما يُمكن تقديمه من العمل الصالح الذي نواصل به بِركِ بعد وفاتُك انطلاقًا من معنى الحديث الذي رويّ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ ، أنه قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ وَالِدِيَّ شَيْءٌ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ ؟ ، قَالَ : " نَعَمْ ، خِصَالٌ أَرْبَعٌ : الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا ، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا بَعْدَ وَفَاتِهِمَا ، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا رَحِمَ لَكَ ، إلا مِنْ قِبَلِهِمَا" ( رواه الطبراني في المعجم الأوسط ) .

= وختامًا ؛ لا يسعُنا إلا أن نُردد بكل ثباتٍ ويقين : إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، وإنا لفراقك يا ( أماه ) لمحزونون ، ولا نقول إلاّ ما يُرضي ربنا ، فجزاك الله عنا خير ما يجزي والدٍ عن ولده ، وغفر الله لك يا من كنّا نسأل الله تعالى أن يرزقنا برها في حياتها ، ونحن الآن نسأله أن يرزقنا برها بعد وفاتها ، كما أننا نبتهل إلى الله تعالى أن يُضاعف حسناتك ، وأن يمحو خطاياك ،وأن يرفع درجاتك في عليين ، وأن يُنزلك منازل الشهداء والصالحين ، وأن يرحمك - وأموات المسلمين من عرفنا منهم ومن لم نعرف - بواسع رحمته ، وأن يجمعنا بك وبوالدنا الغالي ( غفر الله له وتجاوز عنه ) في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مُقتدر . ولا أجد ما أقول في ختام هذه الرسالة إلاّ قول الشاعر :

عليكِ سلامُ الله منّـا تحيةً .... إلى أن تغيبَ الشمسُ من حيث تطلعُ

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . أبها في 9 / 11 / 1433هـ .
 0  0  14503