هل بدأت الحضارة المعاصرة في الاحتضار؟
د.فايز بن عبدالله الشهري
استنتاجات واستقراءات تظهر هنا وهناك تكاد تشير إلى أن الحضارة الإنسانية الحديثة بشقيها المادي والروحي توشك على الاحتضار وإعلان نهاية التاريخ. الثابت أن كبرى الحضارات الإنسانية التي سادت عبر القرون اعتمدت في أساسها على منظومة قيم روحيّة أطلقت الفكر الإنساني إلى أبعد مدى منسجمة في ذلك ضمن إطار أخلاقي عام للبشر ومصلحتهم الكبرى في عمار الأرض. واليوم مع ثورات الاتصال والتواصل واندماج الحدود المادية والمعنوية بات التراكم "الحضاري" البشري مشاعاً بين شعوب الأرض يترفهون في خيراته ويشقون بسلبياته سواء بسواء حتى أولئك الذين لم يسهموا بشكل فعّال في تطوير الجانب المادي لهذه الحضارة. الفرق هنا أننا في القديم كنا نميّز الحضارات في الشرق والغرب بما لها من سمات وملامح مادية وروحية مخصوصة، أما اليوم فتكاد تسود حضارة ماديّة كاسحة لا روح لها.
ومن مؤشرات نهاية هذه الحضارة هي إضعاف حقيقة "الخالق" المعبود في بنية الفكر الإنساني المعاصر، والإسراف في إمكانات "العقل" المخلوق وبالتالي إضعاف الجانب الروحي في الشخصيّة المعاصرة وتحميلها مسئولية الفهم والتفسير والاستنتاج لكل شيء. وهذا الأمر جعل "الدين" حالة أكثر منه حاجة فأدخل الإنسان المعاصر متاهة الاستكبار وعناد المنطق. وعلى هذا السياق مثلا- أصبح للفساد والظلم حيل قانونية وتفاهمات أخلاقية، وباتت فكرة بناء مجتمع إنساني انطلاقاً من "قدسية" الزواج والعائلة أقل وزناً من مرتبة "التزام" بعد تحويله إلى "مزاج" شخصي تستدعيه حالات إلحاح إشباع الحاجات وغياب توفر البدائل الأقل كلفة.
والأشد من هذا أن تطوّر الغرور البشري بمنجزات الحضارة المادية والقوة العمياء التي جلبتها معها أدى إلى خفض قيمة الإنسان والحياة ووفق هذا المنطق أصبح التدمير وتسيير جيوش الموت قرارا لا يرتبط بإحقاق العدل ورفع الاستبداد بل وفق ما تقتضي "المصلحة" وهذا لا يعني فقط تدمير "قيم" سامية وغرس أخرى "هابطة" وإنما تبع ذلك تأسيسٌ ماكر لعلاقات بشرية ميكانيكية منطقها القوّة والنفعيّة . وهكذا لم يعد متخذ قرار "الموت والدمار" يعاني أخلاقياً أو حتى "يخجل" مما سيدوّن التاريخ فكلّ ما عليه هو تكلّف بضع عبارات مبهرجة أمام "الميكرفونات" ثم ترك الأمر لمحترفي "العلاقات العامة" ليباشروا مهمتهم في تزيين الحاضر وتزوير التاريخ.
ومن أهم إفرازات هذه الحقبة المخاتلة تهالك مفهوم "السلطة" الصغيرة والكبيرة في المجتمع في مشهد لم يكتب مثله التاريخ. أمّا شواهدها فجليّة ببضع إسقاطات منتقاة من مشاهدات الحاضر الاجتماعي والسياسي والعسكري حين تهالك مفهوم "هيبة" السلطة بعد ضعضعة مكون" العائلة" فتبدّل معهما كل مفهوم معلوم للسلطة والجماهير في أدبيات علم الاجتماع والسياسة؟. عربيّاً تلخص جزء من المشهد في مظاهر هزال السلطة مقابل قوّة "الجماهير" التي تجاوزت انتهازيّة النخب وقررت في أشهر قليلة قلب معادلة السلطة والجماهير وإجابة سؤال" من يقرّر مصير من؟ في "فانتازيا" عجيبة لفورة سلطة الجماهير وهي تقاضي رئيساً محبوساً أو تلاحق قائداً مخلوعاً وآخرين معهم يتتابعون ما بين مقتول أو محاصر حتى يتمّ الله أمره.
قال ومضى: من درس التاريخ جيّداً وجد الترحاب والمكان في صفحاته.