قهوة العصر في القصر
الكرم قيمة عظيمة، وللأفراد والمجتمعات فيها مذاهب ونحل، والكريم النقي بجبلته وعفويةِ سجاياه لا يخفى على أحد، فهو قريب من الله تعالى، قريب من الناس، فيُحَب ويُحْتَرم لعطائه النافع للبلاد والعباد، أما دَعِيُّ الكرم فمهما تكلَّف وتصنّع فإنّ جهده منزوع البركة، ورصيده الاجتماعي يتناقص وجاهةً وتقديراَ.
إنما نشاهده وخاصة في المناسبات والولائم الصيفية من عَرْض الموائد الموسعة في ضروبٍ من الإسراف والتبذير لهو جدير بالمناقشة والتفنيد.
غير أن ما أريد طرحه هنا ليس ما ذكرت من المناسبات المعتادة( العزائم) والتي تتم عادة في أوقاتها المقبولة غداءً وعشاءً بما يمليه العرف الاجتماعي السائد، وإنما الذي أعنيه هو ما أسموه ( قهوة العصر)، والتي تنقلب إلى موائد كبيرة وكثيرة في أشكال من السفر المبثوثة بأصناف المأكولات والمشروبات في غير ما وقت طعام، والأغرب من ذلك أن هذه القهوة قد تكرر لذوات الضيوف عند أكثر من مضيف في أكثر من بيت بتنافس مسعور في فترة ما بين العصر والمغرب تمضيةً للوقت ريثما يحين موعد وليمة العشاء الكبرى عند مضيف ما، وكأني بالقوم في لحظات سباق ووداع مع الطعام.
إن الفئة التي اعتادت هذا السلوك في الغالب الأعم هي مِن الموسرين، وتقوم عادة بانتقاء ضيوفها، وفي المقابل نلاحظ أن الضيوف هم أيضا فئة انتقائية غالباً، إذ تقوم بعملية انتقاء لمضيفيها، فليس كل قادم يُستَضاف، وليس كل داعٍ يجاب ما لم يخضع للمعايير!! ، ولقد رأيت عائلاً مستكبراً في أحد الأسواق على درجة ٍعاليةٍ من القلق يبحث عن عسلٍ بالشمع فلم يجد، يريد أن يلحق بركب المقهوين، فلا طريقاً قطع ولا ظهراً أبقى، إذ لم يفلح في كسب موافقة المعنيين، فتملكه الكَمَدُ وانكفأ متحسراً ومغاضباً حيث لم يستلذ بإكمال تمثيليته بسكب العسل المحمول وَمَجِّ الكلام المعسول.
أما المقهوون الذين تنطبق عليهم المعايير فهم في لهاث مستمر وقلق وأرق حتى يفوزوا بقصب السبق، وبالحظوة المرجوة بانتزاع فرصة تقديم القهوة المدموجة فيما لذ وطاب من أصناف اللحوم والطيور والأسماك والفواكه والخضروات والعصائر والسلطات والمعلبات وأطباق الحلوى وأصناف الخبز والعصيد وألوان العسل والسمن السائل والجامد والمشروبات الباردة. وعلى هامش مراسيم المائدة تقدم القهوة العربية استثناءً وتمويهاً بعد تربع القوم على سفرة ممدودة لا يكاد يُحاط بكردتها. وكل هذا باسم وتحت غطاء قهوة العصر مروراً بمشاهدة القصر.
وبعد هذا كله يقول أحدهم في ومضة التتويج النفسي، وفي بارقةٍ نرجسية، وبدرجة عليا من التواضع والانكسار المبطن بالزهو والاستعلاء على الغير، وعلى أَنْعُم الله: ( استروا ما واجهتوا)!!!.
هذا ولكي يظهر أحدهم بالمظهر اللائق والصامد أمام هذا التنافس المحموم بين المقهوين فإنه قد يضرب كَبِد سيارته في الاتجاهات الأربعة بحثاً عن أسمن وأكبر الخراف والتيوس وأثمن العسل والسمن والسليط، وعن أمهر كاهنات العصيد، وعن أصناف الفواكه الموسمية وغيرها. وإنَّ مِن هؤلاء المقهوين من تجشم عناء الطريق إلى جازان لإحضار المانجو بنفسه، ومنهم من يَمَّمَ إلى نجران لجلب الحمضيات وعنب وزبيب اليمن، وآخر توجه صَوبَ الطائف للخطف من عنبه ورمانه، ولا أستبعد من أحدهم في ظل هوس نشوة القهوة أن يتوجه مستقبلاً تِلْقاءَ مَدْيَن لجلب الزيتون!!.
وكل ما اقترب اليوم الموعود زاد المقهوي قلقاً وأرقاً وكرباً خشية الإخفاق، ويُقْلِق معه الأهل والأولاد حتى تتم مراسيم مسرحية كرمه المصطنع بكامل فصولها.
لقد استشرت المنطق وأرجعت البصر كرتين فلم أجد لهذه العادة المتطفلة جانباً مضيئاً ( أقصد بهذه الكيفية الموغلة في الإسراف كمًا وكيفاً وزمناً ) وما يظفر به هؤلاء المقهوون من ريائهم وسمعتهم لا يعود على المجتمع بالنفع، بل لا يَمْرقُ الأمرُ عن كونه كسباً فردياً خارج سرب المألوف، وإشباعاً نفسيًا على حساب القيم، وإثباتاً للوجود الشخصي لا يتخطى حواف السفر المكتظة بما يؤلم المؤمنَ والعاقل من نشاز التوقيت، وتعمد الإسراف، وتبذّل العرض، وشطط الفكر، ولوثه النفس، وتكلف السلوك وتشويه الواقع، مما لوَّثَ وألْبَسَ القيمةَ الثمينة للكرم قناعَ الزيفِ والنزَقِ والمبالغة.
إذن وفيما بان لي فإن العملية برمتها تسبح في الباطل، إلا فيما ندر لتصل إلى ساحل الكرم الهادر بقوة دفع شيطانية تلبيساً وأَزَّاً ، في هيئة الإسراف العلني في الموائد والمال والوقت، وهذا منكر محض، وأُخُوَّة في الشيطان مرجومة، إذ تمتطي صهوة الانتقائية وهي مفسدة اجتماعية، وتُقْصِي غير المقتدر وهذا عزل نفسي ظالم، وهي مضيعة للوقت والجهد، وتحقيق للذات بالزهو والاستعلاء المقيت، وإشباع الحاجة إلى التقدير والمكانة الاجتماعية بما قد ينتقص من قدر الآخرين، وهذا كله خروج سالب من المألوف والمأمول، فلا ريب أنه نشاز سيمقته المجتمع وينبذه. وقد كان أولى أن يُسْتثمر الوقت المهدر خلال هذه المراسيم في تناول أطراف الحديث النافع في الترويح البريء وفي الأخبار النافعة، ومعالجة القضايا الاجتماعية، وتعويد الجيل (بالقدوة ) آداب المجالس والحوار، وإنزال الناس منازلهم ونحو ذلك في جوٍ صِحِّي من الحميمية والفائدة، ولا بأس عندئذٍ من شرب قهوة العصر فقط.
أيها العقلاء: من كان من هؤلاء المقهوين مريضاَ فيجب أن نسارع إلى علاجه، ومن كان مختلاً فعلينا أن نرفع عنه القلم ونحجر عليه ، أما من ثبت أنه يعاقر هذه السلوك وهو من ذوي الفكر والقلم والعلم فذلك هو الوباء المبين، إذْ لا نملك إلاّ أنْ نربأَ به عن ذلك، ونحرك رؤوسَنا يمنةً ويسرةً تعبيراً عن حسرتنا، وعن أسانا الكبير، ثم ندعه يحتكم إلى لُبِّه، ويستفت قلبه، لأنه هو من يُرْجَى عنده السعي نحو بُرْءِ المتورطين في مثل هذا التردي المشين، وأن يطهرهم ببصيرته من دنس الكرم المزعوم، وأن يلتمس هو مزيداً من الحظوة الاجتماعية في التسامي بالعادات، لا أنْ يُعززها بممارستها وِفْق سلوك جاهلي يستجدي الجاهَ حول حواف السفر الفارهة إشباعاً للعيون قبل البطون في باحة كرم هلامي متبخر.
أيها المقهوون ، يا معشر المسرفين:
ثوبوا إلى رشدكم، وتوبوا إلى المنعم بارئكم، ذاك الذي يغار على نعمه، اقلعوا قبل أنْ تُصِيبَنا قارعة بما صنعت أيديكم، واشتهت أهواؤكم ،وأخرجت جيوبكم.
توبوا فليست من المسرفين ببعيد؟.
علي بن محمد بن هشبول
إنما نشاهده وخاصة في المناسبات والولائم الصيفية من عَرْض الموائد الموسعة في ضروبٍ من الإسراف والتبذير لهو جدير بالمناقشة والتفنيد.
غير أن ما أريد طرحه هنا ليس ما ذكرت من المناسبات المعتادة( العزائم) والتي تتم عادة في أوقاتها المقبولة غداءً وعشاءً بما يمليه العرف الاجتماعي السائد، وإنما الذي أعنيه هو ما أسموه ( قهوة العصر)، والتي تنقلب إلى موائد كبيرة وكثيرة في أشكال من السفر المبثوثة بأصناف المأكولات والمشروبات في غير ما وقت طعام، والأغرب من ذلك أن هذه القهوة قد تكرر لذوات الضيوف عند أكثر من مضيف في أكثر من بيت بتنافس مسعور في فترة ما بين العصر والمغرب تمضيةً للوقت ريثما يحين موعد وليمة العشاء الكبرى عند مضيف ما، وكأني بالقوم في لحظات سباق ووداع مع الطعام.
إن الفئة التي اعتادت هذا السلوك في الغالب الأعم هي مِن الموسرين، وتقوم عادة بانتقاء ضيوفها، وفي المقابل نلاحظ أن الضيوف هم أيضا فئة انتقائية غالباً، إذ تقوم بعملية انتقاء لمضيفيها، فليس كل قادم يُستَضاف، وليس كل داعٍ يجاب ما لم يخضع للمعايير!! ، ولقد رأيت عائلاً مستكبراً في أحد الأسواق على درجة ٍعاليةٍ من القلق يبحث عن عسلٍ بالشمع فلم يجد، يريد أن يلحق بركب المقهوين، فلا طريقاً قطع ولا ظهراً أبقى، إذ لم يفلح في كسب موافقة المعنيين، فتملكه الكَمَدُ وانكفأ متحسراً ومغاضباً حيث لم يستلذ بإكمال تمثيليته بسكب العسل المحمول وَمَجِّ الكلام المعسول.
أما المقهوون الذين تنطبق عليهم المعايير فهم في لهاث مستمر وقلق وأرق حتى يفوزوا بقصب السبق، وبالحظوة المرجوة بانتزاع فرصة تقديم القهوة المدموجة فيما لذ وطاب من أصناف اللحوم والطيور والأسماك والفواكه والخضروات والعصائر والسلطات والمعلبات وأطباق الحلوى وأصناف الخبز والعصيد وألوان العسل والسمن السائل والجامد والمشروبات الباردة. وعلى هامش مراسيم المائدة تقدم القهوة العربية استثناءً وتمويهاً بعد تربع القوم على سفرة ممدودة لا يكاد يُحاط بكردتها. وكل هذا باسم وتحت غطاء قهوة العصر مروراً بمشاهدة القصر.
وبعد هذا كله يقول أحدهم في ومضة التتويج النفسي، وفي بارقةٍ نرجسية، وبدرجة عليا من التواضع والانكسار المبطن بالزهو والاستعلاء على الغير، وعلى أَنْعُم الله: ( استروا ما واجهتوا)!!!.
هذا ولكي يظهر أحدهم بالمظهر اللائق والصامد أمام هذا التنافس المحموم بين المقهوين فإنه قد يضرب كَبِد سيارته في الاتجاهات الأربعة بحثاً عن أسمن وأكبر الخراف والتيوس وأثمن العسل والسمن والسليط، وعن أمهر كاهنات العصيد، وعن أصناف الفواكه الموسمية وغيرها. وإنَّ مِن هؤلاء المقهوين من تجشم عناء الطريق إلى جازان لإحضار المانجو بنفسه، ومنهم من يَمَّمَ إلى نجران لجلب الحمضيات وعنب وزبيب اليمن، وآخر توجه صَوبَ الطائف للخطف من عنبه ورمانه، ولا أستبعد من أحدهم في ظل هوس نشوة القهوة أن يتوجه مستقبلاً تِلْقاءَ مَدْيَن لجلب الزيتون!!.
وكل ما اقترب اليوم الموعود زاد المقهوي قلقاً وأرقاً وكرباً خشية الإخفاق، ويُقْلِق معه الأهل والأولاد حتى تتم مراسيم مسرحية كرمه المصطنع بكامل فصولها.
لقد استشرت المنطق وأرجعت البصر كرتين فلم أجد لهذه العادة المتطفلة جانباً مضيئاً ( أقصد بهذه الكيفية الموغلة في الإسراف كمًا وكيفاً وزمناً ) وما يظفر به هؤلاء المقهوون من ريائهم وسمعتهم لا يعود على المجتمع بالنفع، بل لا يَمْرقُ الأمرُ عن كونه كسباً فردياً خارج سرب المألوف، وإشباعاً نفسيًا على حساب القيم، وإثباتاً للوجود الشخصي لا يتخطى حواف السفر المكتظة بما يؤلم المؤمنَ والعاقل من نشاز التوقيت، وتعمد الإسراف، وتبذّل العرض، وشطط الفكر، ولوثه النفس، وتكلف السلوك وتشويه الواقع، مما لوَّثَ وألْبَسَ القيمةَ الثمينة للكرم قناعَ الزيفِ والنزَقِ والمبالغة.
إذن وفيما بان لي فإن العملية برمتها تسبح في الباطل، إلا فيما ندر لتصل إلى ساحل الكرم الهادر بقوة دفع شيطانية تلبيساً وأَزَّاً ، في هيئة الإسراف العلني في الموائد والمال والوقت، وهذا منكر محض، وأُخُوَّة في الشيطان مرجومة، إذ تمتطي صهوة الانتقائية وهي مفسدة اجتماعية، وتُقْصِي غير المقتدر وهذا عزل نفسي ظالم، وهي مضيعة للوقت والجهد، وتحقيق للذات بالزهو والاستعلاء المقيت، وإشباع الحاجة إلى التقدير والمكانة الاجتماعية بما قد ينتقص من قدر الآخرين، وهذا كله خروج سالب من المألوف والمأمول، فلا ريب أنه نشاز سيمقته المجتمع وينبذه. وقد كان أولى أن يُسْتثمر الوقت المهدر خلال هذه المراسيم في تناول أطراف الحديث النافع في الترويح البريء وفي الأخبار النافعة، ومعالجة القضايا الاجتماعية، وتعويد الجيل (بالقدوة ) آداب المجالس والحوار، وإنزال الناس منازلهم ونحو ذلك في جوٍ صِحِّي من الحميمية والفائدة، ولا بأس عندئذٍ من شرب قهوة العصر فقط.
أيها العقلاء: من كان من هؤلاء المقهوين مريضاَ فيجب أن نسارع إلى علاجه، ومن كان مختلاً فعلينا أن نرفع عنه القلم ونحجر عليه ، أما من ثبت أنه يعاقر هذه السلوك وهو من ذوي الفكر والقلم والعلم فذلك هو الوباء المبين، إذْ لا نملك إلاّ أنْ نربأَ به عن ذلك، ونحرك رؤوسَنا يمنةً ويسرةً تعبيراً عن حسرتنا، وعن أسانا الكبير، ثم ندعه يحتكم إلى لُبِّه، ويستفت قلبه، لأنه هو من يُرْجَى عنده السعي نحو بُرْءِ المتورطين في مثل هذا التردي المشين، وأن يطهرهم ببصيرته من دنس الكرم المزعوم، وأن يلتمس هو مزيداً من الحظوة الاجتماعية في التسامي بالعادات، لا أنْ يُعززها بممارستها وِفْق سلوك جاهلي يستجدي الجاهَ حول حواف السفر الفارهة إشباعاً للعيون قبل البطون في باحة كرم هلامي متبخر.
أيها المقهوون ، يا معشر المسرفين:
ثوبوا إلى رشدكم، وتوبوا إلى المنعم بارئكم، ذاك الذي يغار على نعمه، اقلعوا قبل أنْ تُصِيبَنا قارعة بما صنعت أيديكم، واشتهت أهواؤكم ،وأخرجت جيوبكم.
توبوا فليست من المسرفين ببعيد؟.
علي بن محمد بن هشبول