نكران المعروف
نكران المعروف
بقلم / علي بن غالب
إن مصطلحي \"المعروف والمنكر\" أشهر من أن يُعَرَّفا، ولكن حين يلتبس الحق بالباطل! قد نحتاج لإعادة التذكير بهما لتجلية الأمر على من التبس عليه الأمر أو لُبس عليه من قبل إعلام تولى كِبْرَ التشويش على المسلمين كثيرا من المفاهيم التي لم يكن أحد يظن في أزمان مضت أن تكون محلا للجدال والخلاف، قبل أن تصبح كلأً مباحاً لكل من هب ودب، فالكافر صار \"آخراً\" والرجوع إلى الشريعة والتحاكم إليها أصبح \"رجعية\"، والمصلحون \"ظلاميون\"، والمعروف منكرا والمنكر معروفا، كما سيتضح معنا من بعض المواقف التي سآتي على ذكرها.
لقد عرف السلف المعروف والمنكر وتناقله من بعدهم الخلف بالقبول والرضا والتأييد، ومن ضمن ما قالوا في تعريفهم لهما بالمعنى التالي:
المعروف هو ما تعارف الناس على حسنه ووافق الشريعة. وضعوا خطا تحت آخر كلمتين.
والمنكر: هو ماتعارف الناس على قبحه وخالف الشريعة، وأعيدوا نفس الخطين تحت نفس الكلمتين هنا أيضا.
ليس كل ما يتعارف الناس على حسنه يصبح معروفا، إلا إذا وافق الشريعة، وإلا أصبحت الكثير من الأمور التي يتحاسنها الناس ويصيرونها أعرافا حتى وإن خالفت الشريعة أصبحت معروفا، ولكن التعريف دقيق جدا بإضافة هاتين الكلمتين للموافقة مع المعروف والمخالفة مع المنكر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف بكم أيها الناس إذا طغى نساؤكم وفسق فتيانكم؟ ، قالوا : يا رسول الله إن هذا لكائن؟ قال: نعم وأشد منه! كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا : يا رسول الله إن هذا لكائن؟ قال : نعم! وأشد منه كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا \" رواه أبو يعلى في مسنده.
حينما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المعروف والمنكر في آخر الزمان سيتبدلان وتنقلب الآية فيصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، لم يكن لديه صلى الله عليه وسلم لا وسائل إعلام ولا قنوات ولا جرائد ولا سينما،
أبدا..! كانت حياة بدائية غاية في البدائية، فما هي إلا مجموعة من النوق وعدد من الخيول ومسجدٌ وعدد من الحجرات، ولذلك قد استغرب الصحابة رضي الله عنهم مثل هذا الكلام، ولو أدركوا عصراً مثل عصرنا وزمانا يشبه زماننا، لما عجبوا ولما استغربوا!
فما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم أصبح اليوم مشاهدا وواقعا.
وقد يستغرب بعض المسلمين من بعض الدعوات أو المقالات التي يطالعها بين الفينة والأخرى حول بعض القضايا سواء المهمة منها أو غير المهمة والتي تجسد حديث النبي صلى الله عليه وسلم في انقلاب المفهومين، ولو استشعروا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الفائت لما عجبوا ولما استغربوا وإنما سألوا الله العصمة من الفتن ما ظهر منها وما بطن..
وهذه بعض الأمثلة:
بعض كتاب الصحافة تجود قريحتهم عن الكلام على قيادة المرأة للسيارة وضرورتها وأهميتها وأنها بديل ضروري لخلوة المرأة مع السائق الأجنبي ...الخ، في حين يغمض عينيه ويسد أذنيه ويغلق فاه عن مظاهر الخلوة الأخرى الأشد خطرا من خلوة سائق مع امرأة في الشارع، كالخلوة في المستشفيات، والخلوة داخل المنازل مع الشغالات...
بعض الكُتَّاب ثارت ثائرته حينما منع بعض ولاة الأمر إقامة بعض المنكرات، كمنع المهرجانات الغنائية وعروض السينما في منطقة عسير صيف هذا العام 1430هـ من قبل صاحب الصلاحية الأول في المنطقة وهو الأمير فيصل بن خالد، وتساءل بل وتعدى به الأمر أن طلب من الأمير إبداء أسباب هذا المنع!!
إنه عندما يطلب إبداء الأسباب لمنع هذا الأمر فهو لا شك ينظر إلى هذا الأمر أنه \"معروف\" وأن الأمير قد منع هذا المعروف، وعليه: فيلزم من الأمير توضيح سبب أو أسباب هذا المنع؟ هل رأيتم كيف انقلبت الآية، وأصبح الناهي عن المنكر حسب صلاحيته مطالبا بإجابة هذا الصحفي عن الأسباب.
كاتب ثالث يتناول قضية غطاء الوجه على أنه منكر عظيم، وأن الصحيح هو كشف الوجه، فأصبحت تغطية الوجه منكرا عنده والكشف هو المعروف وهو الذي ينادي به؟
لست هنا بصدد تناول هذه الموضوعات فقهيا، ولست معنيا بسرد أدلة القائلين بهذا القول أو ذاك..
ولكنني بصدد التساؤل عن سياسة الكيل بعدة مكاييل من قبل هؤلاء الصحفيين، فهم يتعامون كثيرا عن مناقشة قضايا المجتمع الحقيقية، كالرشوة والفساد وجوانب ظلم المرأة في عدد من المجتمعات وتقصير بعض المؤسسات الخدمية الحكومية في القيام بمهامها، وهذه كلها منكرات لا أحد يجادل فيها، ويتوجهون إلى ما يشبع رغباتهم هم فيرفعون عقيرتهم على أنهم خط الدفاع الأول عن هذه المسائل أو تلك في تتبع عجيب لشاذ الأقوال من العلماء والمرجوح وترك الراجح والذي عليه اتفاق العلماء.
لا نسمع لأحد منهم كلاما على ما يعرض في فضائيات النخاسة وتجارة الرقيق البيض وعرض الجسد، وخطورتها على أخلاق الجيل المسلم، فالسكوت علامة الرضا، ولا شك أن هذا من أعرف المعروف لدى هؤلاء، في حين أصموا آذاننا بالحديث عن انتهاكات وأخطاء هيئة الأمر بالمعروف وضرورة إلغائها لأنها أصبحت منكرا قائما بحد ذاته في نظرهم طبعا
أليست ازدواجية وانقلابا في المفاهيم عجيبة؟
حاشية
إن الكثير من الفقراء في جنوب أو شمال بلادنا والكثير من أهل العيص الذين تركوا \" غرفهم \" إلى مخيمات الإيواء في درجات حرارة تصل إلى الخمسين وربما تزيد، لا يهمهم أن تمنع السينما أو تفرض بالقوة على هذا البلد، ولا يهمهم هل تقود المرأة السيارة أم لا تقود، كل الذي يهمهم أن يعيشوا كفافا ويموتوا كفافا، ويجدوا لقمة العيش التي تشبع بطون أبنائهم وبناتهم، وهذه هي مشاكلنا الحقيقية التي نريد من يناقشها بكل شفافية وموضوعية وأمانة.