يا حاملات الشريم و الطل فوق الحشائش ...!!
يا حاملات الشريم و الطل فوق الحشائش ...!!
كانت المرأة في الجنوب قبل نصف قرن و نيف رمزا للمرأة المنتجة في مشاركتها مع زوجها في فلاحة الأرض , و في تربية المواشي , و صناعة اللبن و مشتقاته ...الخ
و كانت تدير أعمال بيتها بدقة عجيبة , فهي تربي الأولاد , و تطهو الطعام , وتجلب الحطب و الماء , و تطحن الحبوب بواسطة الرحى .
و أقصد بالدقة العجيبة في إدارة البيت " كيفية قدرتها المذهلة في مواءمتها ما بين تدبير شؤون منزلها , و مشاركتها مع زوجها في الأعمال الصعبة من فلاحة الأرض و غيرها" دون أن يكون معها خادمة تساعدها في المنزل كما هو الآن .
و الغريب في الأمر دقة أدائها لأعمالها على الرغم من أنها أمية لا تقرأ و لا تكتب كما هو سائد قبل نصف قرن من الزمان .
و قد ضاهت بفعلها نظريات الجودة في حسن انتاجيتها , و توصف المرأة العاملة النشيطة ب ( السديدة ) أو ( الحزيبة) أو ( الصلاح ) , و كل ذلك كناية عن القدرة المهارية العالية التي تتمتع بها المرأة في الإنتاجية , و هذه القدرة تعتبر من أهم المعايير التي ينظر إليها الرجل عند اختياره شريكة حياته إلى جانب الدين و القيم .
و هناك جانب آخر من قدرتها , و هي أنها تستطيع أن تقوم بعمل فران ماهر , فهي قد تخبز في تنورها ما يفوق العشرين فطيرة من النوع الكثيف يوميا , خصوصا إذا كانت أسرتها تفوق العشرين فرد , كما هو حال العوائل الممتدة , و التي تقطن بيتا واحدا يتكون من الجد و الجدة و الأبناء و الزوج و أخوان و أخوات الزوج , وهلم جرا.
و لاحظ أن أعمال الخبز وتهيئته و تقديمه تقوم به فجرا , ثم بعد ذلك تضع شريمها في محصلها ( وعاء مصنوع من سعف النخل لحمل الحشائش للماشية) , و تذهب للجبال لجلب العلف لأبقارها في البيت , و ربما أخذتها معها للرعي إلى جانب أغنامها.
و تذكرني الصورة الجميلة للمرأة , و هي حاملة شريمها , و محصلها في أوقات الطلة ( الندى) و البرد مع أول الصباح ببعض الأشعار الجميلة من التراث اليمني التي منها :
يا حاملات الشريم و الطل فوق الحشايش *** و معطرات الزنان فوق الصدور الزراكش !!!
هيا اسبقين الطيور ***و غردن بالغباشش !!!
و لاشك أن هذا جزء يسير من طاقات المرأة الجنوبية الكامنة في تلك العقود الغابرة , و قد كانت مصدر إعجاب لمناطق المملكة الأخرى , و أيضا كان يضرب بها المثل في انتاجيتها العالية و اتقانها لشؤون بيتها .
و هناك أسئلة بحثية تثور , و أرجو أن تكون في دائرة إهتمام العلوم السلوكية في الحقول النفسية و الاجتماعية و الأنثروبيولوجية , و هي :
ما سر دقة المرأة الجنوبية لأعمالها في عقود صعبة مضت على الرغم من أميتها ؟
و أيضا ما سر المرونة العجيبة التي تستطيع بها أن تؤدي الأعمال الكثيرة و المعقدة في وقت واحد دون كلل أو ملل؟!
و لماذا أغفلت الدراسات الاجتماعية دور المرأة الجنوبية كمثال يصلح أن يكون نموذجا في الأطروحات العلمية على مستوى الماجستير أو الدكتوراه؟
و كيف استطاعت حواء الجنوب سحب البساط من تحت قدمي آدم الزوج في ذلك الزمن , و تكون مضرب المثل في الإنتاجية و الإعجاب من الآخرين؟!
و لماذا كانت تعيش بسلام و في بيت واحد مع أسرة الزوج الكبيرة , في حين أنه يستطيع بناء منزل مستقل لها بدون أي تكلفة , فقط من الأحجار القريبة و بمساعدة أبناء قريته , و في أسبوع واحد و دون أن يشتري الأرض؟!!!
و السؤال الأخير هل يمكن إحياء نموذج المرأة الجنوبية المنتجة في أيامنا هذه ؟!
و دمتم بخير.