×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

قرى ظاهرة



من كان يخطر له على بال أن القرآن الكريم الذي أنزله الله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين قد أشار إلى هذه القرى التي نسكنها منذ آلاف السنين , ووصفها بعدة صفات يحق لنا أن نفخر بها , ونرفع رؤوسنا بهذا المدح الإلهي العظيم على مر الأزمان , ففي الآية الثامنة عشرة من سورة سبأ , وفي سياق الحديث عن قوم سبأ باليمن يقول الحق تبارك وتعالى وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين) وحتى نستنتج المقصود بالقرى الظاهرة سنعرج قليلاً على أقوال المفسرين في هذه الآية الكريمة قال الإمام محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية :
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة
القول في تأويل قوله تعالى : { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } يقول تعالى ذكره مخبراً عن نعمته التي كان أنعمها على هؤلاء القوم الذين ظلموا أنفسهم , وجعلنا بين بلدهم وبين القرى التي باركنا فيها وهي الشام , قرى ظاهرة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 22007 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , جميعا عن ابن أبى نجيح , عن مجاهد قوله : { القرى التي باركنا فيها } قال : الشام. 22008 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } يعني الشام . * - حدثني علي بن سهل , قال : ثنا حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد { القرى التي باركنا فيها } قال : الشام . وقيل : عني بالقرى التي بورك فيها بيت المقدس . ذكر من قال ذلك : 22009 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } قال : الأرض التي باركنا فيها : هي الأرض المقدسة . وقوله : { قرى ظاهرة } يعني : قرى متصلة , وهي قرى عربية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 22010 - حدثني يعقوب , قال : ثنا ابن علية , عن أبي رجاء , قال : سمعت الحسن , في قوله : { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } قال : قرى متواصلة , قال : كان أحدهم يغدو فيقيل في قرية ويروح , فيأوي إلى قرية أخرى . قال : وكانت المرأة تضع زنبيلها على رأسها , ثم تمتهن بمغزلها , فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ من كل الثمار . 22011 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { قرى ظاهرة } : أي متواصلة. 22012 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثني أبي , قال : ثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قوله : { قرى ظاهرة } يعني : قرى عربية , بين المدينة والشام . 22013 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثني أبو عاصم , قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث , قال : ثنا الحسن , قال : ثنا ورقاء , جميعا عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قوله : { قرى ظاهرة } قال : السروات . 22014 - حدثنا عن الحسين , قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد , قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { قرى ظاهرة } يعني : قرى عربية , وهي بين المدينة والشام . 22015 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد , في قوله : { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } قال : كان بين قريتهم وبين الشام قرى ظاهرة , قال : إن كانت المرأة لتخرج معها مغزلها ومكتلها على رأسها , تروح من قرية وتغدوها , وتبيت في قرية لا تحمل زادا ولا ماء لما بينها وبين الشام .
وقدرنا فيها السير
وقوله : { وقدرنا فيها السير } يقول تعالى ذكره : وجعلنا بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل , وقرية إلى قرية , لا ينزلون إلا في قرية , ولا يغدون إلا من قرية .
سيروا فيها ليالي وأياما آمنين
وقوله : { سيروا فيها ليالي وأياما آمنين } يقول : وقلنا لهم سيروا في هذه القرى ما بين قراكم , والقرى التي باركنا فيها ليالي وأياما , آمنين لا تخافون جوعا ولا عطشا , ولا من أحد ظلما . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 22016 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة { سيروا فيها ليالي وأياما آمنين } : لا يخافون ظلما ولا جوعا , وإنما يغدون فيقيلون , ويروحون فيبيتون في قرية أهل جنة ونهر , حتى لقد ذكر لنا أن المرأة كانت تضع مكتلها على رأسها , وتمتهن بيدها , فيمتلئ مكتلها من الثمر قبل أن ترجع إلى أهلها من غير أن تخترف شيئا , وكان الرجل يسافر لا يحمل معه زادا ولا سقاء مما بسط للقوم . 22017 -حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد , في قوله : { وأياما آمنين } قال : ليس فيها خوف
وقال القرطبي رحمه الله :
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها
قال الحسن : يعني بين اليمن والشأم . والقرى التي بورك فيها : الشام والأردن وفلسطين . والبركة : قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء . ويحتمل أن يكون " باركنا فيها " بكثرة العدد .
قرى ظاهرة:
قال ابن عباس : يريد بين المدينة والشام . وقال قتادة : معنى " ظاهرة " : متصلة على طريق يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية . وقيل : كان على كل ميل قرية بسوق , وهو سبب أمن الطريق . قال الحسن : كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار , فكان ما بين الشام واليمن كذلك . وقيل " ظاهرة " أي مرتفعة , قاله المبرد . وقيل : إنما قيل لها " ظاهرة " لظهورها , أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى , فكانت قرى ظاهرة أي معروفة , يقال : هذا أمر ظاهر أي معروف .
وقدرنا فيها السير
أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيراً مقدراً من منزل إلى منزل , ومن قرية إلى قرية , أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى . وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء ولخوف الطريق , فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد .
سيروا فيها
أي وقلنا لهم سيروا فيها , أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين , أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين , فهو أمر بمعنى الخبر , وفيه إضمار القول .
ليالي وأياما آمنين
ظرفان " آمنين " نصب على الحال . وقال : " ليالي وأياما " بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم ; أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه . قال قتادة : كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظماء , وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا , ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه .
ولو حاولنا تلخيص أقوال المفسرين وتطبيقها على الواقع لوجدنا أن هذه القرى هي قرى جبال السروات والممتدة من أبها إلى الطائف للأسباب التالية :
1 ـــ أن الحق تبارك وتعالى قد وصفها بأنها قرى ظاهرة والمتأمل في القرى من أبها إلى الطائف يجد أنها كانت تبنى على رؤوس الجبال لا في بطون الأودية أو السهول ,لأن ذلك يساعد أهل القرية على حمايتها وتحصينها ومراقبة ما حولها من أراض زراعية وحيوانات أليفة ورعاة وغير ذلك , كما إن ارتفاعها يبعدها عن مجاري السيول حيث كانت الأمطار تسقط بغزارة على جبال السروات , كما إن أجدادنا كانوا يبنون بيوتهم على الجبال لتوفير الأراضي السهلة للزراعة والرعي.
2 ــ إشارة المفسرين إلى أن هذه القرى كانت متواصلة لا تخرج من قرية إلا وتدخل في الأخرى وهذا لا ينطبق إلا على قرى جبال السروات (قرى درب السلطان).
3 ـــ إشارة المفسرين إلى كثرة المزارع والخيرات في هذه القرى وهذا ما كان بالفعل حين كانت الأمطار تسقط بغزارة على هذه القرى حيث أشار الهمداني إلى شيء من هذا في كتابه القيم (صفة جزيرة العرب).
4 ـــ قوله تعالى: (وقدرنا فيها السير) حيث إن هذه القرى كانت على مر الأزمان الغابرة ممراً للمسافرين من اليمن إلى الشام وللحجاج والمعتمرين والتجار إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة ولا يزال درب السلطان الذي يمر مع قرى بني لام معروفاً إلى يومنا هذا.
5 ـــ قوله تعالى سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين : ففي الوقت الذي كان السلب والنهب يخيف قوافل المسافرين في صحاري الجزيرة العربية كان المسافر على درب السلطان في قرى جبال السروات يسير ليلاً أو نهاراً متمتعاً بالأمن من جميع جوانبه وفي الوقت الذي لم يكن يتوفر فيه مطاعم ولا فنادق ولا شقق مفروشة كان المسافرون على درب السلطان يتغدون في قرية ويتعشون في التي بعدها دون أي مقابل , وقد أشار المفسرون إلى ذلك وهذا يدل على اتصاف أبناء هذه القرى بإكرام الضيف وإطعام ابن السبيل. أما الأمن على النفس والمال والعرض فقد سمعنا من كبار السن ما كان بين القبائل من اتفاقات ومعاهدات تنص على حماية المسافرين وحماية الأسواق مما يعرص من يحاول الاعتداء على عابري السبيل إلى أشد العقوبات , ولم نسمع أن أحداً من المسافرين أو الحجاج قد تعرض للنهب أو السلب في ليل او نهار عدا حالة خاصة حدثت عام 1343 هـ عن طريق الخطأ , ولست هنا بصدد الحديث عنها , إذ ليس لأهل المنطقة في هذه الحادثة ناقة ولا جمل.
وبهذا نخرج من هذا النص الكريم بأن سكان هذه القرى منذ عهد دولة سبأ إلى اليوم وهم يُؤمنون الخائف , ويقرون الضيف , ويؤوون الغريب , كما نعلم بأن الله تعالى قد ذكر قرانا في كتابه الكريم , وهو شرف لنا لا يبلى على مر الأزمان.
بقلم الأستاذ
عبدالله مرعي الشهري
 0  0  8612