بين غزة و الأحزاب
بين غزة و الأحزاب
الجمعة 12/ 1/1430هـ
الجمعة 12/ 1/1430هـ
الحمد لله العلي الأعلى ؛ كتب العز والنصر لمن حكم شرعه ، وضرب الذل والهوان على من خالف أمره ، لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }المجادلة21
أحمده وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ ابتلى العباد بالشر والخير ، والكفر والإيمان ، والمعصية والطاعة ، وجعل لكل منهما أنصارا ودعاة يدعون إليهما ؛ فدعاة على أبواب جهنم ، ودعاة على أبواب { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }الأنبياء35 { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }الفرقان20
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ أرسله بالهدى ودين الحق ؛ ليهدي به من الضلالة ، ويبصر به من العماية ، فبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله تعالى حتى أتاه اليقين ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ أقاموا العدل، ورفعوا الظلم ، ونشروا دين الله تعالى ، وحكموا بين الناس بشريعته ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله تعالى حق التقوى ؛ فلا رافع للذل والهوان ، ولا منجي من العذاب والنكال إلا الله تعالى ، وإنما تنال رحمته ، وينجى من عذابه ، ويتنزل نصره بتقواه سبحانه في كل الأمور صغيرها وكبيرها ، حقيرها وجليلها.
أيها المسلمون
لربما تساءل الكثير في هذه الأيام و هو يشاهد عدواً كشر عن أنيابه , و قوى تحالفت على أتباع محمد (ص) , يتساءل ؟ هل مر بالأمة كهذه الأيام ؟ هل ابتلي المؤمنون بمثل هذا البلاء ؟ هل تجمعت الأمم على ثلة مؤمنة ؟ فنقول نعم . و ندع الحديث للتاريخ يروي أخبار الأبطال , ويسرد مواقف يستأنس بها المؤمنون , و يستبشر بها الموقنون , و يعلم الصادقون أن نصر الله قريب .
ففي السنة الخامسة من الهجرة خرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وسادات بني النضير إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأجابتهم قريش، وكانت قد أخلفت موعدها في الخروج إلى بدر، فرأت في ذلك إنقاذا لسمعتها والبر بكلمتها .
ثم خرج هذا الوفد إلى غَطَفَان، فدعاهم إلى ما دعا إليه قريشاً فاستجابوا لذلك، ثم طاف الوفد في قبائل العرب يدعوهم إلى ذلك فاستجاب له من استجاب، وهكذا نجح ساسة اليهود وقادتهم في تأليب أحزاب الكفر على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين .
واتجهت هذه الأحزاب وتحركت نحو المدينة ,وبعد أيام تجمع حول المدينة جيش عَرَمْرَم يبلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، جيش ربما يزيد عدده على جميع من في المدينة من النساء والصبيان والشباب والشيوخ .
وسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عقد مجلس استشاري أعلى، تناول فيه موضوع خطة الدفاع عن كيان المدينة.
فقال سلمان الفارسي : يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خَنْدَقْنَا علينا . وكانت خطة حكيمة لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك .
وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ هذه الخطة، فوكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا من الخندق أربعين ذراعاً، وقام المسلمون بجد ونشاط يحفرون الخندق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم ويساهم في عملهم هذا .
ففي البخاري عن البراء بن عازب قال : رأيته صلى الله عليه وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ** وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى رغبوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا
كان المسلمون يعملون بهذا النشاط وهم يقاسون من شدة الجوع ما يفتت الأكباد، قال أنس : كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهَالَةٍ سنخة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح .
وقال أبو طلحة : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين .
وواصل المسلمون عملهم في حفره، فكانوا يحفرونه طول النهار، ويرجعون إلى أهليهم في المساء، حتى تكامل الخندق حسب الخطة المنشودة، قبل أن يصل الجيش الوثني العرمرم إلى أسوار المدينة .
وأقبلت قريش في أربعة آلاف، ، وأقبلت غَطَفَان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 22 ] .
وأما المنافقون وضعفاء النفوس فقد تزعزعت قلوبهم لرؤية هذا الجيش { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [ الأحزاب : 12 ] .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سَلْع فتحصنوا به، والخندق بينهم وبين الكفار . وكان شعارهم : [ هم لا ينصرون ] .
ولما أراد المشركون مهاجمة المسلمين واقتحام المدينة، وجدوا خندقاً عريضاً يحول بينهم وبينها، فالتجأوا إلى فرض الحصار على المسلمين،
وبينما كان المسلمون يواجهون هذه الشدائد انطلق كبير مجرمي بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة فأتي كعب بن أسد القرظي ـ سيد بني قريظة وصاحب عقدهم وعهدهم، فتأمروا على خيانة المسلمين و الوقوف مع المشركين ,وانتهي الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين , فتجسد أمامهم خطر رهيب .
وقد كان أحرج موقف يقفه المسلمون، فلم يكن يحول بينهم وبين قريظة شيء يمنعهم من ضربهم من الخلف، بينما كان أمامهم جيش عرمرم لم يكونوا يستطيعون الانصراف عنه، وكانت ذراريهم ونساؤهم بمقربة من هؤلاء الغادرين في غير منعة وحفظ، وصاروا كما قال الله تعالي : { وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 10، 11 ]
ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قالوا : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسري وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط . وحتى قال بعض آخر في ملأ من رجال قومه : إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا أن نخرج، فنرجع إلى دارنا فإنها خارج المدينة . وحتى همت بنو سلمة بالفشل، وفي هؤلاء أنزل الله تعالي : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } [ الأحزاب : 12، 13 ] .
ثم إن الله عز وجل ـ وله الحمد ـ صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم، وفَلَّ حدهم، فكان مما هيأ من ذلك أن رجلاً من غطفان يقال له : نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ بن عامر الأشجعي رضي الله عنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنت رجل واحد، فَخذِّلْ عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة ) ،فاستطاع بتوفيق الله أن يخذل القوم , فتخاذل الفريقان، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وخارت عزائمهم .
وكان المسلمون يدعون الله تعإلى : ( اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ) ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فقال : ( اللّهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللّهم اهزمهم وزلزلهم ) .
وقد سمع الله دعاء رسوله والمسلمين، فبعد أن دبت الفرقة في صفوف المشركين وسري بينهم التخاذل أرسل الله عليهم جنداً من الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قِدْرًا إلا كفأتها، ولا طُنُبًا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جنداً من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف .
فانهزموا بتوفيق الله و نصره , و رجع أهل الكفر أذلة صاغرين , فلله الحمد من قبل و من بعد .
أقول ما سمعتم و استغفر الله لي و لكم ولسائر المسلمين فاستغفروه و ارجوه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده و بعد
فلقد كان للظروف التي لابستها هذه الغزوة , من كثرة العدو ,
و غدر القريب , و الريح و البرد القارص , و المجاعة , جعلت هذه الغزوة , من أشد الغزوات امتحان لقلوب المؤمنين , و أي وصف أبلغ من قول الله عز و جل { وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } فظهر النفاق , و ظهرت أمراض القلوب , و ها نحن اليوم نشاهد هذه المواقف بجلاء , و ننظر إليها بلا واسطة , في غزة الحبيبة .
ففي الشدائد يظهر النفاق و المنافقين , و في الشدائد يظهر الإيمان
و المؤمنين , فماذا يقول المنافقون و ما هي مواقفهم , إنهم يقولون كما قال الله عنهم {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً } فهم لا يثقون بوعد الله و لا يؤمنون بنصره , و رؤوس أموالهم التذلل للأعداء و استنجاد النصرة منهم .
أما المؤمنون فهم بنصر الله واثقون , و بوعد الله موقنون , و يعلمون أن ما أصابهم إنما هو بوعد الله {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }الأحزاب22
و ظهر في هذه الغزوة فضل التضرع إلى الله عز و جل , و كيف أن الأسباب إذا كانت قليلة فيعوضها و يفضل عنها التوكل على الله رب الأرباب , و مالك الأسباب , كما قال موسى عليه السلام { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } لما قيل له { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } و قال النبي (ص) لأبي بكر { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } لما قال له أبو بكر : لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا . و قال الله تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } و قال { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ }الطلاق3
عباد الله
إن نفوس الناس تختلف باختلاف المبادئ التي يحملونها , و يضحون في سبيلها , فتظهر معادن الناس في الأزمات , فمن تلك النفوس نفوس هشة سرعان ما تذوب , و يحملها التيار معه كما يحمل الغثاء , و منها الصلب الذي تمر به العواصف المجتاحة , فتنكسر حدتها على متنه , و تتحول إلى رغوة خفيفة و زبدا .
و منهم من إذا مسه الفزع طاش لبه فولى الأدبار , و كلما هاجه حب الحياة و طلب البقاء أوغل في الفرار و قد قال الله {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً }الأحزاب16
ورغم شدة هذه النازلة على إخواننا وفداحتها، وتعدد أطراف الجريمة فيها؛ فإن الأمل معقود -بعد الله تعالى- على الغزاويين في صبرهم وثباتهم أمام قصف الأعداء الذين طاشوا وتخبطوا، وصاروا يضربون بلا وعي، وإنما النصر صبر ساعة، وقد بدت بوادر هذا الفشل، وعبر عنه عدد من المفكرين والمحللين اليهود، يقول جدعون ليفي:«لقد خرجت إسرائيل إلى حرب فاشلة، كما ارتكبت جريمةَ حربٍ بشعة، تجاوزتْ كل منطق وكل حدود إنسانية، بشكلٍ يُدَلِّلُ على غباء سياسي مستفحل لدى قيادتها».
وإننا إن شاء الله تعالى لنرجو أن يحظى إخواننا المرابطون في الأرض المباركة وفي غزة بقول النبي :«لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ من أمتي على الدِّينِ ظَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ من خَالَفَهُمْ إلا ما أَصَابَهُمْ من لأْوَاءَ حتى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ الله وَهُمْ كَذَلِكَ، قالوا: يا رَسُولَ الله، وَأَيْنَ هُمْ؟ قال: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» رواه أحمد.
وصلوا وسلموا...