إمام أهل السنة
إمام أهل السنة
الجمعة 4/ 2/1430هـ
الجمعة 4/ 2/1430هـ
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الناس:
سِيَرُ الصالحين مدرسة أسسها القرآن، ووعتها السنة، وحفظتها كتب التاريخ. ومعنا في هذا اليوم، عَلَمٌ من الأعلام، وصالح من الصالحين، وإمام من الأئمة؛ بل إمام الدنيا، وحافظ العصر، أحفظ أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحديث الشريف، حفظ التاريخ سيرته، وأحبته القلوب لصلابته في السنة، ودفاعه عنها،
إنه الإمام المبجّل أحمد بن حنبل، إمام السنة، الواقف يوم المحنة، الزاهد فيما سوى الله، المتقن للحديث .
ولد الإمام أحمد في آخر القرن الثاني، وعاش في بيت فقير، مات أبوه وهو طفل، فتكفَّلت أمه الزاهدة العابدة بتربيته، وهذا دور المرأة يوم أن تكون صالحة، يوم أن تكون ذاكرة لله , يوم أن تكون مستقيمة على أمر الله، ينشأ أطفالها على لا إله إلا الله، فيحبون الله، ويحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون كتاب الله، ويتعلقون ببيوت الله.
قال الإمام أحمد رحمه الله -: فحفَّظَتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات، حفظ كتاب الله واستوعاه في صدره، فأصبح عابدًا لله، محافظًا على أوامره، منتهيًا عن نواهيه، علمته أمه الفضيلة، وربته على التقوى.
قال رحمه الله -: كانت أمي تلبسني اللباس، وتوقظني، وتحمي لي الماء قبل صلاة الفجر، وأنا ابن عشر سنوات، وكانت تختمر وتتغطى بحجابها وتذهب معه إلى المسجد؛ لأن المسجد بعيد؛ ولأن الطريق مظلمة. فانظر إلى هذه المرأة الصالحة، وما تبذله من جهد وتعب حتى يصبح ولدها من عباد الله الصالحين وليس ممن استهوته الشياطين في الأرض حيران.
عاش الإمام أحمد في هذا الجو الطاهر، وفي هذه الأجواء النقية، في بيت كلُّ همِه أن يعبد الله عز وجل وأن يكون هذا الغلام عبدًا خالصًا لله، قال: فلما بلغتُ السادسة عشرة من عمري، قالت لي أمي: اذهب في طلب الحديث، سافر فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلى الله الواحد الأحد. قال: فأعطتني متاعَ السفر، وقالت: يا بني إن الله إذا استودع شيئًا لا يضيعه أبدًا، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، فذهب من عندها من بغداد، من عاصمة الدنيا، فذهب = رضي الله عنه وأرضاه قال: مضيتُ من بغداد إلى مكة، فضِعْتُ في الطريق ثلاث مرات، فكنت كلما ضِعتُ استغفرت الله ودعوته، وقلت: يا دليل الحائرين دلّني، قال: فوالله ما أنتهي من كلامي إلا ويدلني دليلُ الحائرين على الطريق!!
ثم وصل إلى مكة، فأخذ حديث مكة، وبعدها سافر إلى اليمن، إلى صنعاء اليمن ، وبينما هو في طريقه، ضاع مرة رابعة، قال: وانتهت نفقتي من الخبز، أما الدراهم فما كان عندي دراهم، فماذا فعل؟ قال: نزلت إلى قوم أهل مزارع يحصدون ويصرمون، فأجَّرت منهم نفسي ثلاثة أيام، يا سبحان الله! إمام الأئمة، يؤجر نفسه من الحصَّادين، فيحصدُ معهم، ووصل بحفظ الله إلى صنعاء، وأخذ الأحاديث النبوية، وكتبها .
وصل إلى صنعاء، فقُدِّم له جوائز من السلطان ومن الأغنياء، فرفض وأبى، وقال: أعمل بيدي، فاشتغل في بعض الصناعات بيده، حتى أعطاه الله بعض الأسباب، وبعض النقود، ثم عاد إلى بغداد.
أما علمه رحمه الله فهو البحر. وَحَدِّث عن البحر ولا حرج: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} [البقرة: 282].
العلم ليس بالمؤسسات، ولا بالشهادات، ولا بالجامعات، العلم تقوى الله، العلم من الحيِّ القيوم .
فعَلَّمَ الله الإمام أحمد فحفظ ألف ألف حديث مع القرآن .
كان متواضعًا جدَّ التواضع، قال بعض الحفَّاظ: رأينا الإمام أحمد نزل إلى سوق بغداد، فاشترى حزمة من الحطب، وجعلها على كتفه، فلما عرفه الناس، ترك أهل المتاجر متاجرهم، وأهل الدكاكين دكاكينهم، وتوقف المارة في طريقهم يسلمون عليه، ويقولون: نحمل عنك الحطب فهزَّ يديه، واحمرَّ وجهه، ودمعت عيناه، وقال: نحن قوم مساكين، ولولا ستر الله لافتضحنا.
أما زهده في الدنيا، فقد رفعه عن كثير ممن عاش معه وعنده الملايين، أتته الدنيا راغمة إلى باب بيته فأبى، كان دخله كما يقول الذهبي وابن كثير في الشهر: سبعة عشر درهمًا وقال: هذه تكفينا. قال أبناؤه: يا أبتاه ما تكفينا هذه، قال: أيام قلائل، وطعام دون طعام، ولباس دون لباس، حتى نلقى الله الواحد الأحد!!
يقول ابنه عبد الله بسند صحيح إليه: "بقيت حذاء أبي في رجله ثمان عشرة سنة، كلما خرمت خصفها بيده"، وهو إمام الدنيا.
أرسل له المتوكل ثمانية أطقم من الذهب والفضة حملها الوزراء على أكتافهم مع سرية من الجيش بعد المحنة، فردَّها وقال: والله لا يدخل بيتي منها درهمٌ ولا دينار.
وأما خُلُقه فأحسن الناس خُلُقًا؛ لأن مَنْ يصاحب القرآن، من يدرس القرآن، من يشتغل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتأثَّر بذلك ولو بعد حين .
يقول الإمام أحمد: رحم الله أم صالح - يعني زوجته وقد توفيت - صاحبتني ثلاثين سنة، والله ما اختلفت أنا وإيَّاها في كلمة واحدة .. زوجته في بيته، صاحبته ثلاثين سنة، ما اختلف معها في كلمة واحدة. أتاه رجل من أتباع السلطان المعتصم، فَسَبَّ الإمام أحمد أمام الناس وشتمه وانتقصه أمام الجماهير، فقال الناس: يا أبا عبدالله، يا أحمد، رُدَّ على هذا السفيه، قال: لا والله، فأين القرآن إذن؟! يقول الله عز وجل -: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63]،
قال ابنه عبدالله: دخلتُ على أبي وهو جالس في البيت متربع مستقبِل القبلة، ودموعه تنهمر على خديه، فقلت: يا أبتاه، ما لك؟ قال: تذكرت في هذه الغرفة موقفي في القبر وحدي لا أنيس إلا الله، قال: فأراك متربعًا، لماذا لا تتكئ وتريح نفسك لأنه شيخ كبير قال: أستحيي أن أجالس الله وأنا متكئ.
دخل عليه الأديب الكبير ثعلب، فقال له الإمام أحمد: ماذا تحفظ من الأدب والشعر؟ قال: أحفظ بيتين، قال: ما هما؟ قال: قول الأول:
إذا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يومًا فلا تَقُلْ خَلَوْتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ
ولا تحسبَنَّ الله يغفُل ساعةً ولا أن ما تُخْفي عليه يغيبُ
فوضع الإمام أحمد الكتاب من يده، وقام وأغلق على نفسه بابًا، وبقي في الغرفة، قال تلاميذه: والله قد سمعنا بكاءه من وراء الباب وهو يردد البيتين.
قال يحيى بن معين: والله ما رأيت أحدًا كأحمد بن حنبل، والله ما أستطيع أن أكون مثله ثلاثة أيام. وقال الإمام الشافعي رحمه الله خرجتُ من بغداد وسكانها ألفا ألفٍ يعني مليونين اثنين فوالله ما خلّفتُ رجلاً أتقى لله وأعلم بالله وأزهد لله وأورع أن تنتهك محارم الله، ولا أحب إليَّ من أحمد بن حنبل.
تعرض الإمام أحمد لفتنة رواها أهل التاريخ جميعًا، سمعت بها الدنيا شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، مسطَّرة إلى قيام الساعة، وهي محنة خلق القرآن، أو الفتنة التي أورثها المأمون في الأمة.
وملخص هذه المحنة: أن المأمون كان مفتونًا برأي منطقي معتزلي فلسفي، ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم.
و هي قوله : إن القرآن مخلوق وكذب على الله، فالقرآن كلام الله عز وجل والله يتكلم بما شاء متى شاء لم يزل متكلمًا سبحانه وتعالى.
فقال هذا الخليفة: إن القرآن مخلوق، واستخدم السيف ليثبت هذه القضية في الأمة، وقتل ما يقارب ألفًا من العلماء الكبار، من علماء الأمة، من أساتذة وتلاميذ وزملاء الإِمام أحمد، وملأ السجون من العلماء وطلاب العلم، فبعضهم أجاب خوفًا من السيف، وبعضهم رفض، وقال: لا أجيب؛ فقتل في الحال، ومُنِعَ التدريس في المساجد، ومنعت الخطابة إلا للمعتزلة وانتشر الشر الكثير وعمت البدعة، فنضَّر الله الإسلام بالإِمام أحمد بن حنبل، وقف وحده وقال: لا والله، القرآن كلام الله، فاستدعي، قال الإمام أحمد: أُخذت من بيتي وسط الليل، وأنا أصلي، فوُضِعَ الحديد في يديَّ وفي رجليَّ، حتى كان الحديد أثقل من جسمي، القيود التي سُلسل بها أثقل من وزنه رضي الله عنه ووضع على فرس، قال: فلما وُضعتُ على فرسٍ لم أتمالك نفسي فكدت أسقط ثلاث مرات، كل مرة أقول اللهم احفظني، فكان الله يردني حتى أستوي على الفرس , قال: فلما أدخلت السجن سحبت على وجهي فنزلت، قال: فكنت أستغفر الله، فنزلت في آخر الليل، قال: فلا أدري أين القبلة، ولا أدري أين أنا، في ظلام وفي وحشة، لا يعلمها إلا الله، فكنت أقول: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، قال فمددت يدي، فإذا بماء بارد، فتوضأت منه وقمت أصلي إلى الفجر.
قال: فلما أصبح الصباح، حُملت على الفرس ثانية، وما طَعِمْتُ طعامًا، وكدت أسقط من الجوع، فأدخلت على المعتصم الخليفة الثاني، الخليفة العسكري صاحب عمُّورية الذي تولى بعد المأمون، قال فلما دخلت عليه هزَّ السيف في وجهي وقال: يا أحمد والله إني أحبك كابني هارون، فلا تعرض دمك لنا، فقال الإمام أحمد آية من كتاب الله أو حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , يطالبه بآية واحدة على قوله بخلق القرآن , فلم يستطع , و لن يستطيع أحد , لأن الله يتكلم بنا شاء , كيف شاء , متى شاء , جل في علاه .
حاول الخليفة أن يضغط على الإمام حتى يقول إن القرآن مخلوق فرفض، فدُعِيَ بالجلادين، ودُعِيَ بجبار من الجبابرة، فقال له المعتصم: اضرب هذا الرجل يعني الإمام أحمد قال: فجلده مئةً وستين سوطًا حتى غُشي عليه، ثم استفاق قال: فكان يقول: لا إله إلا الله، حسبي الله ونعم والوكيل , ورفض الإمام أحمد أن يجيب حتى ظهرت أخاديد الدماء المتجمدة في ظهره من كثرة الضرب الذي تعرَّض له، فرفع على الفرس وأعيد، وبقي في السجن ثمانية وعشرين شهرًا، وهو في السجن سرد الصيام، لم يفطر يومًا واحدًا - كما ذكر ابنه عبد الله - لأن كل يوم يمرُّ كان يظنُّ أنه سوف يموت فيه، وكان يحبّ أن يلقى الله عز وجل صائمًا.
يعرض عليه الطعام والشراب، واهتم الخليفة بأمره؛ فكان يقول: لا تأتوني بالعشاء حتى تعرضوه على أحمد، فيعرضون له المائدة ليأكل فيقول: والله لا آكل لهم لقمة، والله لا أشرب لهم شربة، فلما أعجزهم وأَكَلَّهم وأملَّهم أعادوه إلى بيته، فأنزلوه وهو جريح، يقول ابنه عبد الله: دخل أبونا علينا في الليل بعدما أُطلق من السجن قال: فأنزلناه من على الفرس، فوقع من التعب ومن الإعياء ومن الضعف والهزال والمرض على وجهه، وقال: فبقي أيامًا، ثم تولى الخلافة المتوكل، فنصر الله به السنة، وأتى بالمال والذهب إلى الإمام أحمد، فبكى الإمام أحمد، وقال: والله إني أخاف من فتنة النعمة أكثر من فتنة المصيبة والمحنة، فرفضه وما أخذ شيئًا.
وبقي على هذه الحال، وكان يقول: يا ليتني ما عرفت الشهرة، يا ليتني في شِعْب من شعاب مكة ما عرفني الناس. فلما أراد الله أن يرفع ذكره مرض تسعة أيام، ومحَّص الله ما بقي عليه من خطايا ومن ذنوب ومن سيئات لا يخلو عنها البشر في هذه التسعة أيام، وفي اليوم الأخير سمع الخليفة أنه مريض، فأمر الناس بزيارته فانقلبت بغداد العاصمة، عاصمة الدنيا، دار السلا ، انقلبت ظهرًا وبطنًا متجهة في طوابير وفي كتائب إلى بيت الإمام أحمد لتزوره في اليوم الأخير، قال أبناؤه: والله لقد أغلقت المتاجر حول بيوتنا، ولقد توقف الباعة، ولقد وقف حرس المتوكل من ممر الثكنات إلى بيتنا من كثرة الناس، فرفض الإمام أحمد أن يُدخل عليه إلا الصبيان والمساكين، فأدخلوا الأطفال عليه، فأخذ يبكي ويقبلهم، ويمسح على رؤوسهم، ويدعو لهم، ثم أُدْخِلَ عليه الفقراء فأخذ ينظر إليهم ويقول: اصبروا، فإنها أيام قلائل، لباس دون لباس، وطعام دون طعام، حتى نلقى الله.
وفي سكرات الموت التفت إلى طرف بيته، إلى طرف غرفته، فقال: لا بَعْدُ. لا بَعْدُ، فقالوا: ما لك، قال: تصور ليَ الشيطان ورأيتُه يَعَضُّ على أصبعه ويقول: فُتّني يا أحمد، فُتَّني يا أحمد، يعني هربت مني، فتنتُ الناس إلا أنت، فيقول الإمام أحمد: لا بَعْدُ، يعني: انتظر، فإني أخاف على نفسي، فقبضه الله عز وجل واستودع أبناءه، وأوصاهم بوصية إبراهيم عليه السلام لأبنائه: ألا يشركوا بالله شيئًا، وأن يقيموا فرائض الإسلام، وأن يتخلَّقوا بالخلق الحسن.
أتدرون ماذا كان آخر كلماته؟ قال: اللهم اعف عمَّن ظلمني، اللهم اعف عمَّن شتمني، اللهم سامح مَنْ ضربني، اللهم سامح مَنْ سجنني، إلا صاحب بدعة يكيد بها دينك، فلا تسامحه، عدو الإسلام لا تسامحه، أما عدوي الذي عاداني لنفسي وشخصي فسامحه واعفُ عنه. وقُبضت روحه رضي الله عنه وأرضاه فماذا كان؟
فلما توفي أعلن المتوكل في الناس أن عليهم أن يُشَيعُوا الجنازة ففتحت الثكنات العسكرية لجيش الخليفة، وحملت الجنازة صباحًا، فما وصلت إلى المقبرة إلا عصرًا، لكثرة الزحام، فقد شيَّعه كما يقول أهل العلم مليون وثلاثمئة ألف وخرج الجيش - وقوامه تسعون ألفًا - في مقدمة الناس يرتِّبون الصفوف، وبكت بغداد على بكرة أبيها فراق هذا الإمام الرباني، فلما وضعت جنازته ارتفع البكاء وقام الناس يصلون عليها .
فرحم الله الإمام أحمد وأسكنه فسيح جناته، وحشرنا في زمرته يوم يوفَّى الصادقون بصدقهم، يوم يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله .. الحمد لله ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد
فقد دفن جسد الإمام ولكن ما دُفن علمه، ولا تواضعه، ولا زهده، ولا ذكره الحسن، أبقى الله له ذكرًا حسنًا في قلوب أتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - من أهل السنة والجماعة نضَّر الله وجوههم.
أن في سِير هؤلاء أثرًا للقلب، وتربيةً للروح، وهداية إلى الواحد الأحد، فطالعوا أخبارهم، وتلمحوا سيرهم، وكونوا متشبهين بهم، علَّ الله أن يهدينا وإيَّاكم سواء السبيل.
هذا و صلوا .....