المحاسبة وتذكر الحسرات
نهاية العام
المحاسبة وتذكر الحسرات
الجمعة 24/ 12/1430هـ
المحاسبة وتذكر الحسرات
الجمعة 24/ 12/1430هـ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول. وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
وسلم تسليما كثيرا.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)،
أما بعد:
فيا عباد الله، أعلموا أن المتأملَ لحالنِا اليوم. وحالِ زماننا وما ظهر فيه الآفاتِ والفتنِ، وما حصل فيه من انفتاحٍ كبيرٍ على الدنيا وزُخرُفها حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها، أو مخلدون فيها.
إن المتأملَ لذلك ليشعرُ بالرهبةِ والإشفاقِ والخوفِ الشديدِ من مظاهرِ وعواقبِ هذه الحال.
إذ قد قست منا القلوب، وتحجرت العيون، وهُجر كتاب علامِ الغيوب.
الأمر جد وهو غير مزاح فاعمل لنفسك صالحا يا صاح
كيف البقاء مع اختلاف طبائع وقرور ليل دائم وصباح
تجري بنا الدنيا على خطر كما تجري عليه سفينة الملاح
فاقضوا مآربكم عجالا إنما أعماركم سفرا من الأسفار
في الصحيح عن [أبي ذر] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أَطَّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد أو راكع والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا و لما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله" وفي رواية [المنذر]" ولحثوتم على رؤوسكم التراب " يوم روى هذا الحديث [أبو ذر] رضي الله عنه بكى وأبكى وقال وددت والله أني شجرة تعضد. ويقول [عبد الله بن عمرو بن العاص] والله لو تعلمون حق العلم ما تلذذتم بلذيذة ولقام أحدكم بين يدي ربه حتى ينكسر صلبه ولصاح حتى ينقطع صوته فلا إله إلا الله .
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
ها هو [عمر بن الخطاب] رضي الله عنه وأرضاه في بستان من بساتين الأنصار وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يراقبه ويرقبه وهو لا يراه وإذا بعمر يقف وقفة محاسبة ووقفة مراقبة مع نفسه ويقول عمر أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله يا عمر أو ليعذبنك الله والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله عمر الذي يأتيه أعرابي قد قرض الجوع بطنه وبه من الفقر ما به و يقف على رأسه ويقول
يا عمر الخير جزيت الجنة اكس بناتي وأمهن
وكن لنا في ذا الزمان جنة أقسم بالله لتفعلن
قال وإن لم أفعل يكون ماذا قال:
إذا أبا حفص لأمضين
قال وإذا مضيت يكون ماذا قال:
والله عنهن لتسألن يوم تكون الأعطيات منة
وموقف المسئول بينهن إما إلى نار وإما إلى جنة
فلم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه إلا أن زرفت دموعه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه ودخل ولم يجد شيئا في بيته فما كان إلا أن خلع ردائه وقال خذ هذا ليوم تكون الأعطيات منة وموقف المسئول بينهن إما إلى نار وإما جنة هكذا تكون مراقبة الله - عز وجل - وهكذا تكون تقوى الله - عز وجل - إن الذي أقلق عمر هو يوم الحسرات يوم الوقوف بين يدي رب الأرض والسماوات ، يومٌ انذرَ الله به وخوفَ، وتوعدَ بهِ وهدد، قال الله عز وجل : (و أنذرهم يومَ الحسرةِ إذ قضيَ الأمرُ وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون)
أيُ حسرةٍ أعظمُ من فواتِ رضاء الله وجنته واستحقاقِ سخطهِ وناره على وجهٍ لا يمكنُ معه الرجوعُ ليُستأنف العملُ، ولا سبيلَ له إلى تغييرِ حالهِ ولا أمل.
آه من تأوه حين إذٍ لا ينفع، ومن عيونٍ صارت كالعيون مما تدمع.
إنها حسرةُ بل حسرات، أنباءٌ مهولات، نداماتٌ وتأسفاتٌ .
إنها تذكرةٌ علنا نحاسبَ أنفسنا ما دمنا في مهلةٍ من أعمارٍ وأوقات وقبلَ أن نندمَ حيث لا ينفعُ ندمُ ولا حسرات.
فمن حسرات العباد يوم القيامة :
حسرةُ على أعمالٍ صالحةٍ:شابتها الشوائبُ وكدرتها مُبطلاتُ الأعمالِ من رياءٍ وعُجبٍ ومنةٍ، فضاعت وصارت هباءً منثورا، في وقتٍ الإنسانُ فيهِ أشدُ ما يكونُ إلى حسنةٍ واحدةٍوبدا لهم من اللهِ ما لم يكونوا يحتسبون)
(وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاط بهم ما كانوا به يستهزئون)
فكيفَ تقيكَ من بردٍ خيامٌإذا كانت ممزقةَ الرواقِ
الفضل عند الله ليس بصورة الأعمال بل بحقائق الإيمان.القصد وجه الله بالأقوال والطاعات والشكران.
حسرةُ على التفريطِ في طاعةِ الله: وتصرمِ العمرِ القصيرِ في اللهثِ وراء الدنيا حلالِها وحرامِها، والاغترارِ بزيفِها مع نسيانِ الآخرةِ وأهوالِها:
( أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين) ( أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) ( أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين)
يا ضيعة العمرِ لا الماضي انتفعتُ به.ولا حصلتُ على علمٍ من الباقي
بلى علمتُ وقد أيقنتُ وا أسفا..أني لكلِ الذي قدمتُه لا قي
حسرةُ على التفريطِ في النفسِ والأهل: أن تقيَهم من عذاب جهنم، يوم تفقدَهم وتخسرَهم مع نفسُك بعد ما فتنتَ بهم، ذلك هو الخزيُ والخسار والحسرةُ والنار، حالك:
بعضي على بعضي يجّردُ سيفه..والسهم مني نحو صدري يرسلُ
النارُ توقد في خيام عشيرتيوأنا الذي يا للمصيبة أُشعلُ
( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسَهم وأهليهم يومَ القيامة، آلا ذلك هو الخسرانُ المبين).
حسرةُ على أعمالٍ صالحة: كان الأمل بعد اللهِ عليها، ولكنها ذهبت في ذلك اليومِ العصيب إلى من تعديت حدودَ اللهِ فيهم فظلمتَهم في مالٍ أو دمٍ أو عرض، فكنتَ مفلساً حقا: (وقد خابَ من حمل ظلما).
فيأخذُ هذا من حسناتِك وهذا من حسناتك، ثم تفنى الحسنات فيطرحُ عليك من سيئاتِ من ظلمتَهم ثم تطرحُ في النار، أجارك الله وإياكم منها .
حسرةُ جُلساءِ أهلِ السوء: يومَ انساقوا معهم يقودونَهم إلى الرذيلةِ، ويصدونَهم عن الفضيلةِ، إنها لحسرةُ عظيمةٌ في يومِ الحسرة يعبرون عنها بعضِ الأيدي يومَ لا ينفعُ عضُ الأيدي كما قال ربي:
( ويومَ يعَضُ الظالم على يديه يقولُ يا ليتني اتخذتُ مع الرسولِ سبيلا)
( ياويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا)( لقد أضلني عن الذكرِ بعد إذ جاءني وكان الشيطانُ للإنسانِ خذولا).
حسرةُ الأتباعُ المقلدين لكلِ ناعق: يوم يتبرأ منهم من تبعوه بالباطل فلا ينفعهم ندم ولا حسرة: (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب) ( إذا تبرأ الذين أتُبعوا من الذين أتَبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب) ( وقال الذين أتبَعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا) ( كذلك يرويهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار).
حسرة الظالمين المفسدين في الأرض: الذينَ يصدون عن سبيلِ الله ويبغونها عوجا، حين يحملون أوزارَهم وأوزار الذين يضلونهم بغيرِ علم، وحين يسمعون عندها قول الله : ( فأذن مؤذنٌ بينهم أن لعنتُ الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيلِ الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرةِ كافرونِ ).
حسرةُ على أموالٍ جمعت من وجوه الحرام: رباً ورشِوةٍ وغشٍ غصب وسرقةٍ واحتيالٍ وغيرِها.
فيا لله أي حسرةٍ أكبر على امرؤٍ يؤتيَه اللهُ مالاً في الدنيا، فيعملُ فيه بمعصيةِ الله، فيرثَه غيرَه فيعملُ فيه بطاعةِ الله، فيكونُ وزره عليه وأجرُه لغيره.
أي حسرة أكبر على امرؤ أن يرى عبدا كان الله ملّكه إياه في الدنيا يرى في نفسه أنه خبر من هذا العبد، فإذا هذا العبد عند الله أفضل منه يوم القيامة. أي حسرة أكبر على امرؤ أن يرى عبدا مكفوف البصر في الدنيا قد فتح الله له عن بصره يوم القيامة وقد عميَ هو، إن تلك الحسرة لعظيمة عظيمة. أي حسرة أكبر على امرؤ علم علما ثم ضيعه ولم يعمل به فشقيَ به، وعمل به من تعلمه منه فنجى به.
أي حسرة أعظم من حسرات المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. يوم تبلى السرائر وينكشف المخفي في الضمائر ويعرضون لا يخفى منهم على الله خافية، ثم يكون المأوى الدرك الأسفل من النار ثم لا يجدون لهم نصيرا.
أما الحسرةُ الكبرى فهي: عندما يرى أهلَ النار أهلَ الجنةِ وقد فازوا برضوانِ الله والنعيم المقيم وهم يقولون: ( أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) ؟ ( قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ). حين ينادي أهلُ النارِ مالكاً خازن النار: ( ليقضي علينا ربك). ( قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحقِ ولكن أكثرَكم للحق كارهون ). ومنتهى الحسرة : حين ينادون ربَهم عز وجل وتبارك وتقدس: ( ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فأنا ظالمون ). فيُجبَهم بعد مدة: ( اخسئوا فيها ولا تكلمون ). فلا تسأل، لا ينبسون ببنت شفة وإنما هو الشهيق والزفير.
طال الزفيرُ فلم يُرحم تضرُعهمهيهاتَ لا رقة تغني ولا جزعُ
فيا حسرة المقصرين. ويا خجلة العاصين. لذات تمرٌ وتبعاتٌ تبقى.
إذا ما نهاك امرأٌ ناصحُعن الفاحشاتِ إنزجر وانتهِ
إن دنياً يا أخي من بعدهاظلمةُ القبرِ وصوتُ النائحِ
لا تساوي حبةً من خردلٍأو تساوي ريشةً من جانحِ
لا تسل عن قيمةَ الربح.. وسل عن أساليبَ الفريق الرابحِ
جعلنا الله وإياكم من الرابحين السعداء، يومَ يخسرُ المبطلون الأشقياء، ويتحسرَ المتحسرون التعساء، إن ربي وليُ النعماء وكاشفَ الضرِ والبلاء. أقول ما سمعتم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه و الشكر له على توفيقه وامتنانه و اشهد أن لا إلهإلا هو تعظيماً لشأنه و اشهد أن محمد عبد الله و رسوله الداعي على رضوانه صلى الله عليه و على له و صحبه و سلم تسليما مزيدا على يوم الدين .
أما بعــــد
فيا عباد الله
لقد آن لكل مقصر أن يعلنها توبةً عاجلةً نصوحاً قبل الممات وقبل يومَ الحسرات بلا مبررات واهيات فالحقائق ساطعات .
( والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما )
آن الأوان لكل واحد منا أن يتوب ويؤب. قبل أن يقفَ أمام الله فتشهدُ الأعضاء والجوارح فيختمُ عل فمه وتتكلم يده ويشهدُ سمعه وبصره وجلده بما كان يكسب ثم لا يكونُ إلا الحسرات، فما تغني الحسرات؟
( وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين، فإن يصبروا فالنار مثوى لهم، وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين).
اللهم أيقض قلوبنا من غفلتها , واجعلنا من المتعضين بمرور الأيام والسنين , وتب علينا يا رحمن يا رحيم .
هذا وصلوا ..